لغة شوارعية: انحدار الخطاب السياسي في العراق

لغة شوارعية: انحدار الخطاب السياسي في العراق

لم يعد مستغرباً أن يتصدر الخطاب السياسي في العراق مفرداتتنتمي إلى “الأزقة والحارات” أكثر مما تنتمي إلى قاعات التشريع، ولا أن نرى السياسي “الزعيم الشعبي” يتحدث بلسان الشارع لا بمنطق الدولة. في مشهد مدوٍ، ينحدر الخطاب العام نحو ما يمكن وصفه بـ”الشوارعية السياسية”، فيما يتراجع دور المثقف إلى الخلف، وتختفي النخبة خلف ستار الضجيج.

هذه الظاهرة لا يمكن عزلها عن التراجع القيمي العميق الذي يعيشه المجتمع العراقي، والذي يتجلى في مفرداته اليومية، وسلوكياته، وانفعالاته. بل إن هذا الانحدار في الخطاب السياسي لا يُعد إلا مرآةً تعكس انهياراً أوسع في منظومة القيم والسلوك الجمعي.

الأسباب والخلفيات

ما يلفت النظر أن هذا الانحدار ليس طارئاً، بل هو نتاج تراكمات طويلة منذ 2003، حين فُتحت أبواب السلطة أمام قوى لم تكن مهيأة فكرياً ولا أخلاقياً لحمل مشروع وطني، إذ تحوّلت قبة مجلس النواب إلى ساحة للمزايدة الطائفية، وغاب عنها الحس التشريعي الرصين.

كما لعبت القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً بالغ الخطورة في تكريس هذه السوقية، حيث أصبحت المنصة الأولى للسياسيين والمتحدثين باسمهم، يطلقون منها شتائمهم وتهديداتهم، ويصنعون جمهورهم من خلال استعراضات لفظية تهدف إلى كسب الترند لا كسب العقل.

ولم يكن غريباً أيضاص أن تطفو على السطح شخصيات سياسية لم تحظَ بأي تأهيل أو خلفية فكرية، لكنها تمتلك لساناً سليطاً وجرأة على كسر قواعد الأداب العامة.

تجلّت الشوارعية السياسية في عدة أشكال، من أبرزها:

استخدام الشتائم والنعوت الطائفية أو المناطقية في خطابات علنية. على سبيل المثال، شهدنا نائباً يقول في جلسة برلمانية: “أنت ما تستحي، تره لو مو الحماية جان سويت بيك كذا وكذا”، وهي جملة تعكس التهديد الصريح بلغة مبتذلة.

تحويل المؤتمرات الصحفية إلى منابر لتصفية الحسابات الشخصية، كما حدث مع نائب آخر حين خاطب خصمه علناً بقوله: “إنت نكرة، وتبقى نكرة” أمام وسائل الإعلام.

توجيه التهديدات للخصوم وحتى للمواطنين عبر وسائل الإعلام، مثلما فعل أحد أعضاء الفصائل المسلحة حين قال في بث مباشر: “كل من يتطاول علينا، نعرف شلون نوصلّه ونربيه”.

الاستقواء بالجماهير عبر استثارة الغرائز لا العقول، عبر مقاطع فيديو تنتشر فيها عبارات مثل: “أحنا مو جايين نحجي سياسة، جايين نكسر روس!”.

المفارقة المأساوية أن بعض السياسيين بات يؤمن بأن “كلما قل أدبه وزادت مفرداته الشوارعية، زادت شعبيته”. لقد أصبح الانحطاطاللغوي أداة للوصول، وليس عائقاً أمامه، وهذه لعمري أم الطامات التي تعصف بالعراق.

تراجع دور المثقف

من أخطر نتائج هذا المشهد هو التراجع المريع لدور المثقف، التي انحسرت أمام صعود ثقافة تستمد مشروعيتها من الضجيج لا من المعرفة، ومن الاستعراض لا من العمق.

لم يعد للمثقف مكان على طاولة القرار أو في صلب النقاش العام،لقد هُمش، إما بالصمت، أو بالهجرة، أو بالإقصاء المقصود، فيما تسيّد مشهدَ التعبير العام مدونون وناشطون بلا خلفية فكرية أو أخلاقية، يصنعون رأيًا عامًا هشًا وسريع الانفعال.

هذا الانحدار الخطابي والسياسي له تداعيات كارثية:

تآكل الثقة العامة بالمؤسسات السياسية.

تشويه صورة العراق في الخارج.

ترسيخ العنف اللفظي والثقافي.

تكريس جيل جديد يرى في الشتيمة والابتذال أدوات للتأثير.

الخلاصة:

إن ما نشهده اليوم في العراق ليس فقط انحداراً لغوياً، وإنما أزمة وعي عميقة تعكس هشاشة البنية الثقافية والسياسية على حد سواء، إذ لا يمكن إصلاح هذا الواقع من دون إعادة الاعتبار للغة، وللأخلاق، وللمثقف.

فحين تتماهى النخبة مع الشارع دون أن ترتقي به، فإنها تفقد شرعيتها، وحين يتوارى المثقف، فإن الضجيج يصبح سيد الموقف. العراق اليوم بحاجة إلى من يُعيد للكلمة وزنها، وللمعنى عمقه وتأثيره، وللمجتمع بوصلته القيمية الضاربة بالقدم.

أحدث المقالات

أحدث المقالات