منذ نعومة أظافري وفي مرحلة الصبا الباكرة، نبتت في فؤادي بذرة حب الكتابة وشعرت بانجذاب بليغ لا يُقاوم نحوها. حينها، لم أدرك سبب هذا الشعور، لكن الفطرة قادتني لأكون مولعاً بتدوين كل ما يدور حولي من أحداث وتجارب.
فيما بعد أحسست بأهمية ما كتبت وبتقادم الأيام أصبحت بحاجة إلى ما كنت قد دونته في الأمس، كاستذكار التواريخ وبعض المناسبات الفردية والعائلية التي كانت تحل بنا.
هكذا داومت على الكتابة وكتبت الأحداث في أيامي وساعاتي ودونت أسماء أصدقائي ومدرستي. اليوم لم أنس أحداً منهم، فحين العودة إلى مدوناتي أجدهم حاضرين أمامي وكأنني أعيش اللحظة والذاكرة تعود بي إلى تلكم الأيام.
الكتابة ليس للتسلية.. فقد يكون الأمر ملحاً أحياً لمعرفة بعض الحقائق بالتأريخ واليوم والشخوص. أتمكن من خلال تدويني للأحداث أن أحاجج الجميع في حقيقة ما حدث قد نختلف عليها ومعرفة أصل الموضوع دون الاعتماد على التوقعات غير الدقيقة. أبحث أحياناً في مذكراتي عن حادث ما وقع والذاكرة لا تسعفني به بالتحديد لأجد ضالتي تماماً. عندها أعرف أن الكتابة كانت مهمة بل وحيوية بالنسبة لي.
ما يحدث لي شخصياً يحدث لدى الشعوب والأمم جميعاً. الكل بحاجة إلى الكتابة والتدوين والتوثيق لإسعاف ماضيهم. أنهم يلجئون إلى المخطوطات لإثبات ملكية عقار ما أو بيان عائدية مركبة معينة. فلو لم تكن تكتب وتقيد المتغيرات في الاوراق، لكانت الحقوق قد اندثرت وتبعثرت وذهب أدراج الرياح قرباناً للإهمال. الذاكرة لا تسعف أحداً قط وقد لجأ الإنسان إلى الكتابة لهذا السبب.
الكتابة لها فوائد جمة. منها بيان الحقائق والوقائع والإحصاء والأمور الحسابية ومنها نقل المعلومة إلى الزمن الأخر. فكما كان الأولون مسئولون عن كتابة الأحداث في زمنهم لإيصالها لنا، كذلك نحن مسئولون عن كتابة ما يدور اليوم لنقله إلى الأجيال من بعدنا. فلولا الكتابة لما انتقل التأريخ إلينا وكان كل شيء قد انتهى في زمنه أو كان يصل إلينا ناقصاً مبتوراً ومحرفاً عن أصله.
وجد بنو البشر أنهم بحاجة ماسة إلى التدوين منذ فجر التأريخ. فالكتابة بدأت في بالظهور في بلاد ما بين النهرين وتحديداً في سومر، حوالي 3500 قبل الميلاد. كانت الكتابة الأولى تعرف باسم الكتابة المسمارية، وكانت تُنقش على ألواح الطين باستخدام قلم مدبب.
وإن كانت الأساليب بدائية في الكتابة، إلاّ أنها أفادت كثيراً حتى الانتقال إلى الأسلوب الحديث وتطورت مستقبلاً في مناطق أخرى أيضاً مثل مصر القديمة التي ظهرت فيها الكتابة الهيروغليفية حوالي 3400 قبل الميلاد بعد فترة قصيرة من ظهور الكتابة المسمارية. ثم الصين حين تطور نظام الكتابة الصيني خلال حكم أسرة شانغ في الألفية الثانية قبل الميلاد. بعدها أمريكا الوسطى وتطور الكتابة على يد المايا حوالي 250 ميلادياً، مع وجود بعض الأدلة التي تشير إلى تأريخ أبكر يصل إلى 500 قبل الميلاد.
مرت الكتابة بمراحل تطورية مختلفة منها الرموز والعلامات البدائية. حيث بدأت كرسوم صورية تعبر عن الأشياء، مثل النقوش الموجودة في كهوف “لاسكو” في فرنسا و”ألتاميرا” في إسبانيا والتي تعود إلى حوالي 35,000 سنة مضت. ثم الكتابة التصويرية (البيكتوغرافية) عندها كانت الصور تمثل أشياء محددة.
بعدها ارتقت الكتابة أكثر في المرحلة الأيديوغرافية (الفكرية) وتطورت فيها الصور لتمثل مفاهيم مجردة وأفعالاً حتى جاءت المرحلة الصوتية (المقطعية) وفيها بدأ الإنسان يربط الصور بأصوات الكلمات أو المقاطع، مما مهد لظهور الأبجديات.
هكذا ظهرت أول أبجدية معروفة من اللغات السامية حوالي 1300 قبل الميلاد في مملكة أوغاريت (بين سوريا وفلسطين حالياً) وتطورت لاحقاً إلى الأبجدية الفينيقية التي انتشرت في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط وكانت أساساً للعديد من الأبجديات الحديثة، بما في ذلك الأبجدية اليونانية ومن ثم اللاتينية.
كان الهدف الأساسي من اختراع الكتابة في بداياتها هو تنظيم التجارة وتسجيل السلع والكميات في المجتمعات القديمة، خاصة في المعابد التي كانت تتحكم في الإنتاج. ثم أصبحت ضرورة ملحة لتدوين مراحل التأريخ وتطور وتقدم الشعوب.