الديانة الإبراهيمية… بين وهم التوحيد وحقيقة التفكيك العقائدي

الديانة الإبراهيمية… بين وهم التوحيد وحقيقة التفكيك العقائدي

الديانة الإبراهيميةبين وهم التوحيد وحقيقة التفكيك العقائدي.


بحث عقائدي وفكري في ضوء النص القرآني والواقع السياسي الحديث .

إعداد: جلال عبد الحميد الحسناوي

فهرس المحتويات .

1 – الاتجاه الأول: الإسلام في القرآن… دين واحد لا يتعدد

2 – الاتجاه الثاني: مشروع الديانة الإبراهيمية… من التسامح إلى التفكيك

3 – التجاه الثالث: زيارة البابا للنجف الاشرف… بين التقدير الديني والتأويل السياسي

4 – الاتجاه الرابع: الإعلام والدين الإبراهيمي… من الترويج الناعم إلى التطبيع العقدي

5 الاتجاه الخامس: الخاتمة والتوصيات

الاتجاه الأول: الإسلام في القرآن… دين واحد لا يتعدد.

تمهيد:

حينما نرجع إلى النص القرآني في أصل الدين، نجد خطابًا إلهيًا حاسمًا لا يحتمل التأويل:

إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ آل عمران: 19

وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ آل عمران: 85

هذه الآيات لا تتحدث عن “دين محمد” (صلى الله عليه وآله) فحسب، بل تُعرّف “الإسلام” كدين إلهي واحد ممتد عبر التاريخ، بدأ مع آدمالنبي (ع) واكتمل مع النبي الخاتم محمد (ص) واله الطاهرين ، وتخلله أنبياء عظام كلهم خاطبوا أقوامهم بالإسلام، وإن اختلفت شرائعهم وتفاصيل مناهجهم.

1 الإسلام لغة واصطلاحًا في القرآن.

• الإسلام لغويًا: الاستسلام والطاعة والخضوع الكامل لله دون شرك.

• الإسلام قرآنيًا: العقيدة التوحيدية التي حملها جميع الأنبياء، منذ النبي آدم إلى خاتمهم النبي الرسول محمد عليهم افضل الصلاة واتم التسليم.

وقد نص القرآن على أن كل نبي دعا قومه إلى الإسلام بمعناه الأصيل، ومن ذلك:

• إبراهيم (ع):

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا آل عمران: 67

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ البقرة: 131

• يعقوب وأبناؤه:

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ البقرة: 132

• يوسف (ع):

تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يوسف: 101

• سليمان (ع):

وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ النمل: 31

2 موسى وعيسى عليهما السلام في ضوء القرآن

أولًا: موسى (عليه السلام)

قال تعالى عن موسى وهو يخاطب قومه:

وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ يونس: 84

هذا التصريح ينسف المزاعم التي تفصل بين “اليهودية” و”الإسلام”، فاليهودية شريعة نزلت ضمن دين الإسلام التوحيدي، لا خارجه.

قال تعالى على لسان موسى وإخوته:

رَبَّنَا اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ البقرة: 128

ثانيًا: عيسى (عليه السلام)

قال تعالى:

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ آلعمران: 52

وقال تعالى عن أتباع عيسى:

وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً…” الحديد: 27

وبيّن صراحة أن عيسى لم يأتِ بدين منفصل، بل بشر بمن يختم الرسالة:

وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ الصف: 6

3اراء الصدرين: قدست اسرارهم.

الفيلسوف الشهيد السيد محمد باقر الصدر:

قال في الأسس المنطقية للاستقراء والإسلام يقود الحياة:

الإسلام ليس لحظة تاريخية ظهرت في الجزيرة، بل هو استمرار رسالي متكامل، يرث كل الرسالات، ويُعبّر عن الحقيقة التي تجلت في كل الأنبياء.”

المرجع الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر:

قال في ما وراء الفقه:

كل الأنبياء كانوا مسلمين. والقرآن لا يقر بتعدد الأديان، بل بتعدد الشرائع ضمن دين واحد، هو الإسلام.”

4موقف علماء الفريقين.

• ابن كثير (تفسير القرآن):

فسر الإسلام في سياق الآيات بأنه دين جميع الأنبياء.

• الفخر الرازي:

أكد في تفسيره أن الإسلام يعني التوحيد والانقياد لله، وهو الأصل في كل الرسالات.

• العلامة الطباطبائي (الميزان):

قال إن الإسلام في القرآن اسم للدين الإلهي، لا لمرحلة منه.

خلاصة الاتجاه:

الإسلام في القرآن ليس دينًا جديدًا جاء به محمد (ص) واله الطاهرين ، بل هو اسم الدين الإلهي الواحد الذي أنزله الله على كل نبي، من آدم إلى محمد ص واله خاتمهم.

وكل من دعا إلى غير هذا الفهم، إنما هو محرّف لمعاني القرآن، وممهّد لصناعة دين ملفّق يخدم مشاريع سياسية باسم الدين، كما سنفصل لاحقًا

الاتجاه الثاني: مشروع الديانة الإبراهيمية… من التسامح إلى التفكيك

تمهيد: من دعوى الوحدة إلى مشروع هندسة العقيدة

ظهر مصطلح “الديانة الإبراهيمية” في العقد الأخير كدعوة ظاهرها السلام، وباطنها إعادة تشكيل البنية العقدية للشعوب تحت شعار “الوحدة الروحية بين أتباع إبراهيم”.

لكنّ القراءة الدقيقة لمسار المشروع ومؤسساته تكشف عن مسعى صهيوني ناعم لإعادة هندسة الوعي الديني وفق مصالح سياسية وثقافية عالمية، تتزعمها قوى دولية تسعى لتفكيك الخصوصيات العقدية للأديان، ودمجها في قالب واحد يخدم الهيمنة الغربية، والتطبيع مع الكيان الصهيوني.

1 من أين بدأت الفكرة؟

1.1 وثيقة “الأخوة الإنسانية” (أبو ظبي، 2019)

وقّعها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب، برعاية محمد بن زايد.

شملت دعوات عامة للتسامح، لكنها افتقدت لأي تحديد عقدي واضح، وهو ما مهد لاحقًا لتوسيع المفهوم نحو فكرة “الديانة الإبراهيمية” بوصفها مرجعية جامعة بين الإسلام واليهودية والمسيحية.

1.2 مشروع “بيت العائلة الإبراهيمية” (افتتاح 2023)

في جزيرة السعديات – أبو ظبي.

مجمّع يضم مسجدًا، وكنيسة، وكنيسًا يهوديًا في موقع واحد، ويُروج له باعتباره “رمزًا لوحدة الأديان”.

1.3 (اتفاقيات أبراهام (2020

اتفاقات تطبيع بين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع الكيان الصهيوني، تحت غطاء “السلام الإبراهيمي”، في إشارة مباشرة إلى البعد الديني في الترويج للتطبيع.

2 ما وراء التسمية: لماذا “إبراهيم”؟

إبراهيم (عليه السلام) في القرآن رمز للتوحيد الخالص والبراءة من الشرك:

إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي الزخرف: 26-27

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ الممتحنة: 4

أما المشروع الحديث فيقدّمه كمجرد شخصية ثقافية جامعة، بلا محتوى عقدي، ولا موقف من الظلم أو الانحراف، بل كـ”رمز سلام وتسامح عالمي”.

وهنا يُفرّغ إبراهيم من رسالته، ويُعاد إنتاجه بما يناسب الأجندة الجديدة.

3المشروع الإبراهيمي في خلفيته الصهيونية

3.1 التمهيد النظري من الفكر الصهيوني

الحركة الصهيونية منذ نشأتها تبنت فكرة “العدو الديني” لخلق حاجز نفسي وعقدي ضد العرب والمسلمين، لكنها عادت اليوم لتروّج لفكرة “الوحدة الإبراهيمية” بعد أن تحقق لها النفوذ السياسي والعسكري.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

الصهيونية ليست مجرد دعوة للعودة إلى أرض، بل هي مشروع لتأسيس نمط عالمي جديد من الإنسان المنفصل عن عقيدته، المتصالح مع السيطرة الإمبريالية.”

• إعادة تشكيل الدين عنصر أساسي في هذا النمط، بما يحقق:

دمج الصهاينة كجزء من الأسرة الروحية.

تمييع العداوة العقدية مع المحتل.

نزع سلاح المقاومة والثقافة الإسلامية.

3.2 الأدوات المستخدمة:

الإعلام الموجه: عبر الأفلام، والبرامج، والكتب المدرسية.

المؤسسات الدينية الرسمية: التي تُجرّ إلى خطاب “السلام”.

الفعاليات الثقافية: مؤتمرات حوار الأديان، منصات التفاهم، إلخ.

4. الشهيدين الصدرين: وتحليل البنية الغربية للمشروع

المفكر الفيلسوف السيد محمد باقر الصدر قال:

الدين عند الغرب يُعاد تركيبه بحسب الحاجة السياسية، ولهذا فإن ما يقدمونه من دعوات للتوحيد ليست إلا وسائل للسيطرة، لا بحثًا عن الحق.” (من كتاب الإسلام يقود الحياة)

المرجع الشهيد السيد محمد الصدر قال:

ما يُطرح اليوم من دعوات لتوحيد الأديان، ليست في حقيقتها إلا تنصلًا من جوهر الإسلام، وتحريفًا لطبيعة الصراع بين الحق والباطل.” (في بحث فقه الدولة الإسلامية)

5نقد علمي للفكرة: هل الدين قابل للتوحيد؟

لا يمكن توحيد الأديان لأن:

العقائد الأساسية تختلف (التوحيد، النبوة، المعاد…).

الشريعة ليست اجتهادًا بشريًا بل وحيًا.

الإسلام جاء مهيمنًا وخاتمًا لا مندمجًا أو مكمّلًا.

قال تعالى:

وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ المائدة: 48

خلاصة الاتجاه:

مشروع “الديانة الإبراهيمية” هو أداة هندسة دينية ناعمة، تهدف إلى سحب البعد الجهادي والمقاوم من الإسلام، وإعادة تعريف الدين بوصفه ثقافة مشتركة لا عقيدة ربانية.

وهو جزء من المنظومة الصهيونية الجديدة التي تسعى إلى إدارة الدين من خارج جوهره، لتطويعه سياسيًا وثقافيًا.

الاتجاه الثالث: زيارة البابا للنجف الاشرف… بين التقدير الديني والتأويل السياسي

تمهيد: حدث يتجاوز المجاملة

في السادس من آذار 2021، قام البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، بزيارة إلى مدينة النجف الأشرف للقاء السيد السيستاني دام عزه ، المرجع الأعلى للطائفة الشيعية الإمامية.

الحدث كان غير مسبوق، لا من حيث رمزيته، ولا من حيث توقيته، ولا من حيث ما تبعَه من تأويلات إعلامية وسياسية حاولت استثمار اللقاء ضمن سياق مشروع الديانة الإبراهيمية.

ولئن كان اللقاء مغلقًا، ولم تُلتقط فيه صور، ولم يُصدر عنه بيان مشترك، إلا أن ذلك لم يمنع محاولات التوظيف المتكررة له كدليل ضمني على انخراط المرجعية في مسار “التقارب الديني العالمي”.

1دلالات الزيارة في السياق الزمني

جاءت الزيارة بعد عامين من توقيع (“وثيقة الأخوة الإنسانية” في أبو ظبي (2019.

بعد أشهر من إعلان (“اتفاقيات أبراهام” (2020.

وقبل افتتاح (“بيت العائلة الإبراهيمية” (2023.

أي أن الزيارة وقعت ضمن تسلسل زمني يتم فيه دمج الدين داخل المسار السياسي للتطبيع، وإعادة صياغة علاقة الإسلام بالغرب واليهودية.

2 موقف المرجعية: صمت محسوب لا مباركة ضمنية

البيان الذي صدر عن مكتب السيد السيستاني بعد اللقاء لم يتطرق إلى المشروع الإبراهيمي، ولم يُلمّح إلى أي تبنٍّ لمسارات الوحدة الدينية، بل جاء بصيغة تؤكد على:

كرامة الإنسان.

حق الشعوب في العيش بسلام.

رفض الظلم والاعتداء.

دعوة رجال الدين للوقوف بوجه قوى الطغيان.

لم يُذكر “التسامح بين الأديان” ولا “الوحدة الروحية” ولا “الأسرة الإبراهيمية” في البيان مطلقًا.

وهذا يُعدّ موقفًا فاصلًا، حافظت فيه المرجعية على توازنها:

• لم ترفض الزيارة، كي لا تُستغل ضدها دوليًا.

• ولم تشارك بمخرجاتها الرمزية، حتى لا تُحسب على مسار لا تنتمي إليه عقديًا.

3 الخطر الكامن: التأويل بعد الغياب

ما يجعل الموقف أكثر حساسية هو أن البابا نفسه قد توفي ، مما قد يفتح الباب أمام:

إصدار وثائق لاحقة ينسب فيها تأييدٌ ضمني للمرجعية لهذا المشروع.

قيام منظمات أو جهات دينية أو إعلامية بتحريف نوايا الزيارة.

توظيف الزيارة في إنتاج سرديات دعائية تقول: “حتى مرجعية النجف رحّبت بمشروع الأخوة الإبراهيمية”.

غياب الصوت المؤسسي الإعلامي الفاعل في الحوزة يضاعف هذا الخطر، ويجعل المرجعية عرضة لاستخدام صورتها دون إذنها.

4 ماذا أرادت المرجعية؟ وماذا أراد الآخرون؟

• المرجعية أرادت: اللقاء الإنساني والتعبير عن المظلومية الأخلاقية للشعوب.

• البابا أراد: خطابًا رمزيًا يُسهم في مشروعه العالمي للتقارب الديني.

• الإعلام أراد: الترويج بأن المرجعية قد انخرطت ضمن “أخوة إبراهيم.

وهنا يُفهم ويستنتج : “الاستقبال كان خطأ، لكن عدم الاستقبال يكون خطأ أكبر”.

إنها معادلة الصمت النشط: قول لا يُقال، لكن يُفهم.

5 قراءة الشهيدين الصدرين للحدث وأمثاله.

المفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر:

حين تكون الرمزية الدينية أداةً في يد الإعلام، فذلك مدخل لتشويه العقيدة. المرجعية ليست مؤسسة مجاملة، بل حارسٌ للخط الإلهي.” (من أوراق غير منشورة في فكر الدولة الإسلامية)

المرجع السيد الشهيد محمد الصدر:

يجب أن تكون المرجعية فوق الإعلام، لكنها لا يجب أن تُترك للإعلام. بين الصمت والانفعال، هناك شيء اسمه البيان الواعي.” (ما وراء الفقه)

خلاصة الاتجاه:

زيارة البابا للنجف لم تكن تأييدًا، ولا كانت عُزوفًا. كانت حدثًا دقيقًا توازن فيه المرجعية بين الحاجة الإنسانية والوعي العقدي.

لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن يُعاد تأويل الحدث خارج سياقه، فيُبنى عليه ما لم يقله أحد، ويُقوَّل المرجع ما لم ينطق به، ما لم تنهض منظومة إعلامية مرجعية واعية تسد هذه الفجوة.

الاتجاه الرابع: الإعلام والدين الإبراهيمي… من الترويج الناعم إلى التطبيع العقدي

تمهيد: حين يصبح الدين مادةً إعلامية

في عالم اليوم، لم يعد الدين يُتداول فقط في الحوزات، والكنائس، والمعاهد، بل صار أيضًا موضوعًا لصناعة الصورة، وميدانًا لتشكيل الرأي العام.

وهنا يدخل مشروع “الديانة الإبراهيمية” من أوسع أبوابه، لا كدعوة دينية، بل كـ”رواية إعلامية ضخمة” مدعومة من مؤسسات سياسية، ومنصات دولية، ومراكز تمويل ضخمة.

ولأن الإعلام لا ينقل الحقيقة كما هي، بل يُعيد صناعتها، فإن أكبر خطر يواجه الأمة اليوم هو أن تُفرض عليها عقيدة جديدة بصيغة إعلامية مُجمّلة، تتسلل من باب “التسامح”، لتصل إلى “إعادة تعريف الإسلام”.

1 استراتيجية الإعلام الإبراهيمي: كيف تُدار العقول؟

1.1 تحويل المقدس إلى رمزي

إبراهيم (ع) يُقدَّم في الإعلام الغربي والعربي المؤدلج لا كنبيٍ موحّد لله، بل كـ”رمز عالمي للتسامح”، منزوع الموقف من الشرك أو الطاغوت.

المرجعيات الدينية تُختزل في “لقطات” وصور دعائية، لا في خطابها العقدي الفعلي.

1.2 صناعة القبول من خلال التكرار

تسويق المصطلحات: “الأخوة الإبراهيمية”، “بيت العائلة”، “السلام الديني”، “الأسرة الإبراهيمية”.

استخدام المؤثرين، وصنّاع المحتوى، وبرامج الأطفال، والدراما.

1.3 تمرير التطبيع عبر الفضاء الديني

من خلال إبراز رجال دين يقفون مع ممثلي الديانة اليهودية والصهيونية تحت شعار: “كلنا أبناء إبراهيم”.

استثمار ذلك لإضعاف الممانعة العقائدية تجاه الاحتلال، وشرعنة الصمت عن الجرائم.

2 الإعلام المرجعي الديني … الغائب الأكبر

رغم عمق الحوزة، والازهر وقوة الموقف الفقهي، إلا أن المرجعيات الدينيةالكبرى في النجف الاشرف وايران ومصر وباقي المدن التي فيها الجامعات الدينية الكبرى لم تبنِ حتى الآن جهازًا إعلاميًا استراتيجيًا قادرًا على:

التحليل الاستباقي للأحداث.

تفنيد التأويلات الملفقة.

الرد على الحملات الممنهجة.

تصدير فكرها للعالم بلغاته وقوالبه العصرية.

وهذا ما جعل زيارة البابا – رغم حكمتها – قابلة للاختطاف السردي من الإعلام العالمي، دون رواية موازية من داخل النجف الاشرف تفكك ذلك بلغة العصر.

3 المفكر الشهيد محمد باقر الصدر والإعلام الرسالي

المعركة الفكرية ليست في المنابر فقط، بل في من يكتب القصة ومن يصوغ الخبر ومن يُنتج الصورة. إن الإعلام الرسالي هو من يسبق الطاغوت، لا من يرد عليه فقط.”

(الإسلام يقود الحياة – رؤية مستقبلية)

4 – المرجع السيد الشهيد محمد الصدر: الإعلام ضرورة لا ترف

من لا يملك إعلامه، سوف يُقال عنه ما لا يقول، ويُقوّل ما لم يُرد، ويُنسَب إليه ما ينفيه. على الحوزة أن تملك لسانًا عصريًا، لا لتمجيد نفسها، بل لحماية الإسلام.”

(ما وراء الفقه – دروس في فقه الدولة)

5 الحل المقترح: بناء جهاز إعلامي مرجعي متكامل

الخصائص المطلوبة:

يكون ناطقًا باسم المرجعية، لا تابعًا لها إداريًا.

يضم باحثين، فقهاء، إعلاميين، ومحللين استراتيجيين.

يتحدث بلغات متعددة.

يرصد ويرد ويؤسس رواية معرفية مستقلة.

المهام:

حماية صورة المرجعية من الاختطاف.

إنتاج محتوى يُعبّر عن العقيدة بلغة العصر.

مواجهة السرديات الغربية حول الدين.

خلاصة الاتجاه:

المعركة اليوم لم تعد في المساجد فقط، بل في الشاشات، والمواقع، والعناوين.

وإذا لم يصدر عن المرجعية خطاب إعلامي رسالي استباقي، فإن غيرها سيكتب عنها كما يشاء، ويُقوّلها ما لم تقل، ويستثمر صورتها فيما لا تمثّله.

والدين الإبراهيمي ليس مشروع وحي، بل مشروع سردي إعلامي سياسي، لا يُواجه إلا برواية مضادة، تنطلق من وعي عقائدي، وصوت إعلامي مبني على بصيرة.

الاتجاه الخامس: الخاتمة والتوصيات

الحق لا يُوحِّده التلفيق، والباطل لا يُغسله التجميل

خلاصة البحث:

على امتداد الاتجاهات ، تتبعنا خطى مشروع “الديانة الإبراهيمية” من نشأته الحديثة إلى جذوره السياسية والفكرية، وانتهينا إلى ما يلي:

1 الدين في القرآن واحد، لا يقبل التعدد ولا التلفيق، وقد نطقت به كل الرسالات السماوية منذ آدم حتى محمد (ص) واله الطاهرين ، تحت اسم الإسلام.

2 الأنبياء جميعًا مسلمون، بما فيهم موسى وعيسى، وكلشرائعهم كانت مندرجة في إطار دين الله الواحد وهو الاسلام.

3 مشروع الديانة الإبراهيمية ليس مشروع توحيد، بل مشروع تفكيك للحق العقائدي، وتمييع للموقف الديني تجاه الظلم والطغيان.

4 المشروع يحمل بصمات الفكر الصهيوني العالمي، الذي يتقن استخدام الدين لإعادة تشكيل الواقع الثقافي والعقدي للأمم، ضمن هندسة فكرية جديدة.

5 زيارة البابا للنجف كانت نقطة ارتكاز وظّفها الإعلام العالمي ضمن سردية الإبراهيمية، رغم أن المرجعية كانت على وعي بالمخاطر، وامتنعت عن إصدار أي بيان مشترك أو موقف يُفسر كتبرير عقائدي للمشروع.

6 غياب جهاز إعلامي مرجعي متكامل يُمكّن الحوزة من الدفاع عن نفسها فكريًا، وشرح مواقفها بلغة معاصرة، يُعد ثغرة خطيرة يجب تداركها.

التوصيات:

أولًا: على الصعيد العقدي

ضرورة التأكيد على وحدة الدين في الخطاب الإسلامي، ونقض أي دعوة تدّعي إمكان الجمع العقائدي بين الرسالات ككيانات متساوية.

نشر الأدلة القرآنية والروائية التي تبرهن أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء، لا دينًا جديدًا بدأ بمحمد (ص) واله.

ثانيًا: على صعيد المرجعيات الدينية .

ضرورة تأسيس جهاز إعلامي تحليلي استباقي ناطق باسم المرجعية:

يتولى شرح المواقف.

يفند التأويلات المغرضة.

يصدر بيانات توضيحية بلغة عالمية.

ثالثًا: على صعيد الأمة والمثقفين

نشر الوعي بمشروع الديانة الإبراهيمية وبيان ارتباطه بالتطبيع، وتفكيك الخطاب الإعلامي الذي يُروّج له.

دعم الأصوات الفكرية والعقدية الحرة التي تحافظ على هوية الأمة دون الانجرار إلى “وحدة زائفة” تُبنى على التنازل عن الثوابت.

ختامًا: رسالة إلى من يُنادون بالدين الجديد.

نبي الله إبراهيم ع ، لم يكن جامعًا بين الحق والباطل، بل كان نقطة الفصل بين التوحيد والشرك، و”الديانة الإبراهيمية” الحديثة ليست إلا قناعًا مخمليًا لسلطةٍ تريد أن تُعيد تشكيل الإيمان الاجوف على مقاس السياسة الدولية.

قال تعالى:

وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ آل عمران: 85

وهذا النص القرآني يُغني عن كل تعليق.