الخضراء قبل الفقراء

الخضراء قبل الفقراء

تشهد محافظة البصرة في الفترة الأخيرة حملة مكثفة لإزالة منازل المتجاوزين على الأراضي الحكومية في إطار سياسة محلية تهدف إلى إعادة تنظيم المدينة وإنهاء الفوضى العمرانية التي تراكمت لسنوات .
وبينما تتعدد وجهات النظر حول مشروعية هذه الإجراءات جاء موقف السيد مقتدى الصدر ليسلط الضوء على البعد الإنساني والاجتماعي لهذه الأزمة في طرح أثار نقاشا وطنيا واسعا .
في خضم مشهد تتقاطع فيه الضرورات القانونية مع الاحتياجات الاجتماعية أطلق السيد الصدر موقفا ناقدا واضحا تحت عنوان صارخ في دلالاته : “الخضراء قبل الفقراء” ، هذا الشعار لم يكن مجرد عبارة احتجاجية بل يمثل رؤية سياسية وأخلاقية ترى أن مكافحة الفساد والتجاوزات لا ينبغي أن تبدأ بالفقراء بل من النخب السياسية والمواقع السلطوية التي اغتنت على حساب الشعب .
الموقف الصدري لم يرفض مبدأ إزالة التجاوزات كليا ، بل قدم مقاربة مشروطة تؤكد أن العدالة لا تتحقق بهدم بيوت العائلات المعدمة قبل أن تستعاد القصور المغتصبة والأراضي المنهوبة من قبل المتنفذين .
من هذا المنطلق شدد السيد الصدر على ضرورة إيجاد بدائل سكنية ملائمة للفقراء وتنظيم عمليات الإزالة وفق خطط مرحلية تبدأ بتوفير أحياء مخصصة ومهيأة بحسب احتياجات كل طبقة اجتماعية .
في هذا السياق يكتسب الطرح الصدري أبعادا إنسانية ومؤسساتية في آن واحد ، فهو لا يبرر التجاوز لكنه يرفض معالجته بأساليب قسرية تهدد كرامة الإنسان وحقه في السكن ، كما يدعو إلى إعادة ترتيب أولويات الدولة بحيث لا تكون القوة أداة لمعاقبة الضعيف بل وسيلة لاسترداد حقوق الشعب من الفاسدين .
المقال يحمل أيضا دعوة ضمنية إلى مراجعة السياسات السكنية في العراق والتي فشلت على مدى عقود في مواكبة النمو السكاني والتوسع الحضري ما دفع عشرات الآلاف من العوائل إلى السكن في مناطق عشوائية أو أراض حكومية دون سند قانوني . ورغم أن القانون واضح في تجريم الاستيلاء غير المشروع على الأراضي إلا أن إعماله دون بدائل عادلة يكرس الفجوة بين الدولة والمواطن .
وبينما تستمر الحملات الميدانية في البصرة ومدن أخرى، فإن رؤية “الخضراء قبل الفقراء” تطرح تساؤلات جوهرية حول مبدأ المساواة في تطبيق القانون وتعيد توجيه البوصلة نحو مساءلة الكبار قبل معاقبة الصغار .
وفي النهاية لا يمكن فصل ملف التجاوزات عن سياق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الأشمل ، فالمطلوب ليس فقط جرافات لإزالة البيوت بل سياسات إسكان عادلة وتوزيع منصف للثروات ، وإرادة سياسية تتجرأ على محاسبة من تجرأ على الدولة والشعب معا .