ثماني سنوات مضت، تحوّلت خلالها الرحلة إلىصراعٍ صامتٍ بين الإنسان والفضاء. في أعماقاللاشيء، كان جاك يحدّق في اتساع الكون أمامه،حيث قطع حتى الآن 80% من المسافة نحو هدفهالمستحيل: الثقب الأسود.

الشراع، ذاك الهيكل المعدني العائم، يمضي في طريقهبثبات، موجّهًا بحساباتٍ دقيقة من مختبر الدفعالنفاث، حيث يجلس العلماء خلف شاشاتٍ عملاقة،يترقبون كل ذرةٍ من بيانات الرحلة. المسار مرسومٌبحسابات رياضية جامدة، لكن الفراغ هنا لا يعترفبالحسابات إنه واسعٌ أكثر من أي منطقٍ بشري.

في عزلته المطلقة، ظلّ الشراع يتواصل مع الأرض عبرالأقمار الاصطناعية، ترسل الإشارات كنبضاتٍ خافتةعبر المسافة المجهولة. الصوت لا يصل هنا، لكنالضوء يكسر العزلة حين تنعكس إشعاعات النجومالبعيدة على سطح السفينة، كأن الكون ذاته يهمس لهبشيءٍ غير مفهوم.

كل ثانية تمرّ تقرّبه أكثر من المجهول، من الثقب الذي لاعودة منه لكن هل كان جاك يخشى ذلك، أم أنه باتجزءًا من الفضاء نفسه؟

                       

                             ***

في مختبر الدفع النفاث، ساد اضطراب غير مألوف. انقطعت الرؤية عن الشراع الفضائي، ذلك الهيكلالمعدني الذي كان يشق طريقه نحو الثقب الدودي،تاركًا العلماء في حيرة تامة.

على شاشات الرصد العملاقة، لم يظهر شيء. كانالشراع مفقودًا، اختفى من نطاق الرؤية دون أيمقدمات، مما أثار القلق بين أعضاء الفريق، فغيابهيعني خطرًا محدقًاربما انجرف عن مساره، أو اقتربمن جرم سماوي غير مرئي قد يدمره تمامًا.

في مكان بعيد، كان مذنبٌ هائل يجر وراءه أطنانًا منالجليد والغبار الكوني، يقترب بسرعة لكن لا أحديراه، لا في المختبر ولا بين طاقم الشراع.

داخل غرفة العمليات، كان الجميع في حالة استنفار. تفحّصوا شبكات الاتصال، تأكدوا أن الأنظمة تعملبكفاءة، مما يعني أن المشكلة ليست مجرد خلل تقني.

قال الصينيّ، وهو يتأمل شاشة النظام: “المفروض أنالكاميرا الموجودة على متن الشراع تُظهر موقعهفلماذا لا نراه؟

رد الأمريكي، بحزم وهو يراجع سجل البيانات: “للأسف، الكاميرا مرتبطة بوحدة الاتصال على متنالشراع وإذا كانت معطلة، فلا سبيل لرصد الرحلة!”

قال العربيّ بعد تفكير عميق: “هذه الوحدة لا تتعطّلإلا إذا تهشّمت وهذا لم يحدث. ربما تلاشت الإشارةبسبب المسافة الهائلة!”

لكن الروسي هزّ رأسه وعلّق بنبرة قلقة: “ليس البعدوحده ما يقطع الإشارة، هناك احتمال أن يكونالتشويش ناجمًا عن مصدر طاقة قوي بالقرب منالشراع

ساد صمتٌ ثقيل قبل أن يقول العربيّ بحسم: “إذن،علينا زيادة عدد الأقمار الصناعية

لرصد موقعه على الفور!”

في لحظات، صدرت الأوامر العليا. رئيس ناسا أمرجميع الأقمار الاصطناعية التابعة للوكالة ولشركائهاحول العالم بتوجيه أجهزتهم لرصد مسار الشراعالمفقود.

وفي تلك اللحظة، كان جاك، قائد الشراع، يحدّق عبرنافذته إلى العتمة المطلقة، غير مدرك أن فريقه علىالأرض يخوض سباقًا مع الزمن لإنقاذه من مجهولٍقادم.

على الأرض، رغم تزايد عدد الأقمار الاصطناعيةالموجهة لرصد المسار، كان السؤال الأكثر إلحاحًا: هلسيكفي ذلك؟ فالأقمار وحدها لن تكون ذات فاعلية إلاإذا قويت الإشارة بما يكفي لمنع تلاشيها في الفراغالسحيق.

لذلك، عملت ناسا منذ شهور على زيادة حجم صحونالهوائيات في شبكة مراقبة الفضاء السحيق، مضاعفةأقطارها، وطلائها بأفضل المعادن التي تساعد علىجمع الأشعة ومنع تشتتها عند وصولها إلى المحطاتالأرضية.

وبعد جهود مكثفة، أُرسلت النتائج أخيرًا إلى مقرناسا، حيث أمسك بَكْ البيانات بتركيز، فقد انضم للتوإلى فريق الدعم. تأمل الأرقام بسرعة قبل أن يقولبصوت واضح: “يا سادة، رغم تسليط الأقماروزيادتها، ورغم تطوير الشبكات الأرضية، لم نتمكنمن رصد الإشارة والتواصل مع جاك! صور المراصدالفضائيّة الموجودة على متنها تُظهر أن مصدرالتشويش ليس خللًا تقنيًا، بل طاقة هائلة من البلازماوالإشعاعات تصدر من الثقب الأسود، وهي التيعطّلت الإشارة بالكامل. لقد اقترب الشراع كثيرًا، مماجعله يفقد الاتصال تمامًا!”

بينما كان هذا النقاش الحاسم يجري في مختبراتناسا، وصل التقرير أخيرًا إلى ميتشو كاجيتا فياليابان، فقرأه بعناية قبل أن يهمس لنفسه باستنكار: “لا جدوى من الاتصال ما دام الثقب الأسود يقضيحاجته! هذا المتغوط دائمًا!”

استنشق قليلًا ثم قال بلهجة ساخرة، وهو يتأملالآلات التي تعج بها المختبرات الفضائية: “رائحتكعفنة يا ابن أصدقائي!”

لكن بعيدًا عن كوكب الأرض، وفي أعماق الفضاء، كانالخطر الحقيقي يقترب بصمت. مذنبٌ هائل يسرعنحو الشراع، حاملاً ذيلًا طويلًا مشبعًا بحرارة غيرطبيعية، وكأن الثقب الأسود نفسه قد دفعه عن مساره،دافعًا إياه بقوة مذهلة نحو المجهول.

على متن الشراع، لاحظ جاك اختفاء الإشارة بينه وبينالأرض. لم يعد هناك أي اتصال، ولا حتى بياناتاستشعار قادمة من مختبر الدفع النفّاث.

ألقى نظرة سريعة على لوحة التحكم، ثم تنهد قبل أنيستدير نحو زملائه، مجبرًا نفسه على التماسك أمامالأزمة المتفاقمة.

علينا أن نتصرف، الشراع يسير بلا هدى الآن ولميعد مختبر الدفع النفّاث يتحكم فيه!”

نظر إلى وجوه أفراد الطاقم، ثم سألهم بجدية: “هليعرف أحدكم سبب فقدان الاتصال؟

تكلمت إيريكا 300 أخيرًا، لكن كلماتها كانت مشبعةباليأس: “ربما تخلّوا عنّا وتركونا نموت في الفضاءوحدنا، هذه هي البشرية!”

نظر إليها جاك مستاءً، ازدادت نبرته حدة وهو يردببرود صارم: “اسكتِ أيتها الخرقاء ولا تتكلمي!”

وضعت إيريكا يدها على فمها في صمت، فاشتعلغضب جاك. اندفع نحوها بسرعة وضربها بقوة وهويصرخ: ألن ننتهي من هذا الموضوع بعد؟! عِشِ آلةوإلّا حطمتك الآن، إيريكا سأحطمكِ! سأنتزع عنكِشريحتك!”

تراجعت إيريكا للخلف، العتمة تحاصرها، والأنفاسفي الغرفة تزداد ثقلاً.

نقل كازو نظره بين جاك وإيريكا، ثم قال بنبرة مشوبةبالقلق: “لا أدري، وكذلك قالت جوليا.”

أخذ جاك نفسًا عميقًا، يحاول استعادة السيطرة علىالموقف الذي خرج عن نطاق العقل. ثم قال بحزم، كمنيحاول فرض النظام وسط الفوضى: “الاحتمال الأكبرأن الثقب يشعّ إشعاعات قوية قامت بالتشويش علىالإشارة، خاصة أننا بدأنا نقترب منه.”

نظر إلى طاقمه، وكأن العزلة جعلتهم أكثر اتحادًا رغمالتوتر، ثم تابع بصوت قاطع: “سأظل أتابع خدمةالتواصل بيننا وبين وحدة التحكم بالأرض حتىتعطي إشارة، وعندها سأعلم أن إشعاعات الثقب قدقلت.”

ثم التفت إلى كازو، وأمره بمتابعة رصد المسار عبرالتلسكوب الموجود على متن الشراع حتى يتمكنوا منتجنب أي ارتطام محتمل بجرم سماوي غير متوقع. وأمر جوليا بالاستعداد لتفعيل صواريخ المناورةالصغيرة فور رصد أي خطر، بينما طلب من إيريكامراقبة وحدات الخدمات كافة.

وفي تلك اللحظة، خفت إفرازات الثقب الأسودتدريجيًا، وعادت الإشارة إلى العمل من جديد. هتففريق الدعم فرحًا في مختبر الدفع النفّاث، ارتسمتعلى وجوههم ابتسامات الانتصار، وانتفضوا بعدرؤية مسار الشراع يظهر أخيرًا على شاشاتالحواسيب.

لقد تمكّنا من الإمساك به!” صرخ أحدهم، قبل أنيضيف بلهجة ساخرة: “لعل ملعون أورط قد كفّ عنالتقيّؤ أخيرًا!”

ولكن الفرحة لم تدم طويلًا سرعان ما رصد الفريقالمذنب صاحب الذيل الطويل، وأجروا حسابات فورية،فتبيّن أنه قادِم من جهة الثقب بزاوية 30 درجة، أي أنهليس في نفس مسار الشراع، لكنه يتجه مباشرة إلىجانبه.

المسافة بينهما؟ قليلة جدًا جدًا

في تلك اللحظة، تقلّصت أساريرهم، تغيّرت ملامحهم،وظهر الخوف في العيون، كما لو أن النصر الذياحتفلوا به قبل ثوانٍ بدأ يتلاشى أمامهم.

تمتم أحدهمإنه قريب جدًا قريب جدًا!”

وانتابت الفريق حالة من الإبلاس للحظات، كأنهمعاجزون تمامًا عن اتخاذ أي قرار.

يتبع

                                    ***                                          

   

ملحوظة

قول كاجيتا: “رائحتك عفنة يا ابن أصدقائي!”

هو جزء من الغموض سيتضح في نهاية الرواية.. وهي أنخلف الثقب يوجد كون خاص كله عبارة عن روبوتات تمكنتمن صناعة الثقوب السوداء بتكنولوجياتها. وصنعت المئاتمنها كي تتمكن من غزو الأرض لكنها لم تفلح حتى الآن.