قصة الحضارة (206): وهبت صقلية تربة خصبة وثراء

قصة الحضارة (206): وهبت صقلية تربة خصبة وثراء

خاص: قراءة- سماح عادل

يستأنف الكتاب الحكي عن صقلية في الحضارة اليونانية. وهي مدينة تميزت بالخصب والغني والثراء. وذلك في الحلقة الخامسة بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء

صقلية..

يحكي الكتاب عن مدينة صقلية: “أغنى الأصقاع التي استعمرها اليونان. لأن الطبيعة وهبت صقلية ما حرمت منه بلاد اليونان في القارة الأوربية  تربتها التي لا يكاد ينفذ خصبها بفضل أمطارها وحمم بركانها  ولذلك كانت تنتج من القمح والحبوب الأخرى ما جعل أهلها يعتقدون أنها إن لم تكن مسقط رأس دمتر نفسها فلا أقل من أن تكون ملجأها المفضل المحبوب. لقد كان فيها بساتين وكروم، وآجام من أشجار الزيتون مثقلة كلها بالثمار؛ وكان فيها شهد لا يقل حلاوة ولذة عن جني همتوس، وأزهار تتفتح طائفة بعد طائفة من بداية العام إلى نهايته. كان فيها سهول ترعى فيها الماشية والضأن، وتنمو على منحدرات تلالها أشجار لا يحصها عد، وسمك البحار المحيطة بها يتوالد وينمو أسرع مما يستطيع أهل صقلية أن يأكلوه.

وازدهرت في هذه الجزيرة ثقافة من ثقافات العصر الحجري الجديد في الألف الثالث من السنين التي قبل ميلاد المسيح، وأخرى من ثقافات العصر البرونزي في الألف الثاني منها؛ وحتى في الأيام المينوية كانت التجارة الخارجية تربط الجزيرة بكريت وبلاد اليونان. وفي أواخر الألف الثاني من السنين تكسرت ثلاث أمواج من الهجرة على سواحل صقلية: وهي موجة السكانيين من أسبانيا، وموجة الإليميين من آسية الصغرى، وموجة الصقليين من إيطاليا. واستقر الفينيقيون حوالي عام 800 ق.م في متيا وبنورموس (بالرمو) في غربي الجزيرة.

هجرة..

وعن تدفق الهجرة اليونانية: “ثم تدفق اليونان عليها من سنة 735 وما بعدها، وسرعان ما أسسوا ناكسوس، وسرقوسة، وليونتيني ، ومسانا (مسينا)، وقطانا ، وجيلا، وهميرا، وسلينس، وأكروجاس. وكان أهل الجزيرة الأصليون في جميع هذه الهجرات يطردون من السواحل نحو الداخل بقوة السلاح. وقد انسحبت كثرتهم إلى الأصقاع الجبلية الداخلية تفلحها وتستغلها، ومنهم أقلية أصبحت عبيدا للغزاة. وتزاوج عدد منهم مع الفاتحين بلغ من الكثرة حدا أصبح معه للدم والعادات والأخلاق اليونانية في صقلية الغلبة على طباع الأهلين، فاتصفوا بما كان يتصف به اليونان من ثورة عاطفية وانهماك في العلاقات الجنسية.

ولم يفتتح اليونان الجزيرة في وقت من الأوقات بالمعنى الصحيح للفظ الفتح، بل بقي الفينيقيون والقرطاجنيون أصحاب السلطة العليا على ساحلها الغربي، ودامت الحرب بينهم وبين اليونان خمسمائة عام، رمزا للكفاح بين اليونان والساميين، وبين أوربا وإفريقية، للاستيلاء على صقلية وبدأ هذا النزاع من جديد في العصور الوسطى بين أهل الشمال (النورمان) والعرب بعد أن ظلت رومة مسيطرة على الجزيرة ثلاثة عشر قرناً من الزمان.

وامتازت قطانا بشرائعها، كما اشتهرت جزائر ليباري بشيوعيتها، وميرا بشاعرها سيجستا سلينس وأكروجاس بهياكلهما، وسرقوسة بقوتها وثرائها. وأضحت الشرائع التي سنها كارنداس لقطانا قبل صولون بجيل كامل أنموذجا تحتذيه كثير من المدن في صقلية وإيطاليا، وكانت عاملا قويا في استتباب النظام العام وكبح الشهوات الجنسية في مجتمعات لا تحميها التقاليد القديمة ولا السوابق المقدسة المرعية.

ومن أقوال كارنداس في هذا المعنى أن في وسع الرجل أن يطلق زوجته، كما أن في مقدور الزوجة أن تطلق زوجها، ولكن ينبغي للرجل ألا يتزوج أصغر من مطلقته كما أن عليها هي الأخرى ألا تتزوج برجل أصغر ممن طلقها.

كرنداس..

وعن حاكم يدعي كرنداس: “وتروي قصية يونانية الطابع نصادفها كثيراً في القصص اليوناني أن كرنداس حرَم على المواطنين أن يدخلوا الجمعية مسلحين. على أنه حدث في يوم من الأيام أن جاء هو إلى اجتماع عام يحمل سيفه سهوا منه، ولما أن لامه أحد الناخبين على مخالفته لشريعته أجابه بقوله: “سأؤيد هذا القانون” ثم قتل نفسه.

مساواة في الملكية..

وعن المساواة في ملكية الأشياء: “وإذا شئنا أن نتصور ما كان يكتنف الحياة من صعاب في هذه المستعمرات التي نشأت عن طريق الفتح العنيف، فما علينا إلا أن نستعرض النزعة الشيوعية العجيبة التي كانت تسود جزائر ليبازي أي المجيدة الواقعة إلى الشمال من شرق صقلية. فقد أقام فيها حوالي عام 580 ق.م جماعة من المغامرين جاءوا من نيدس جنة القراصنة. وكان هؤلاء يهاجم المتاجر المارة حول المضيق، ويأتون بغنائمهم إلى أوكارهم في الجزيرة ويقتسمونها فيما بينهم قسمات تعد مضرب المثل في العدالة.

وكانت الأرض ملكا للأهلين مجتمعين، يخصصون عددا منهم لفلحها، ويوزعون غلتها على المواطنين توزيعا عادلا خاليا من الظلم والإجحاف. بيد أن النزعة الفردية عادت إلى الظهور على مدى الأيام، فقسمت الأرض أقساما امتلكها الأفراد، وعادت تجري في مجراها المألوف خالية من المساواة، مليئة بالتنافس والتطاحن.

وعلى ساحل صقلية الشمالي كانت تقوم مدينة هيمارا، وقد شاءت الأقدار أن تجعل منها بلاتية في الغرب، وفيها صاغ استسيكورس “صانع الأناشيد الجماعية” خرافات بني جنسه في صورة أغان جماعية في الوقت الذي أخذ فيهِ اليونان يملون الملاحم الطوال؛ وحتى هلن وأخيل نفسهما لم ينجوا من هذا التجديد القصير الأجل بل اكتسيا على يدهما بهذا “الثواب الجديد”. وكأنما أراد استسيكورس أن يسد الثغرة بين الملحمة الميتة، والرواية القصصية المقبلة، فألف قصصا شعرية؛ روى في إحداها كيف ماتت فتاة طاهرة لأن من أحبته لم يستجب لحبها، وكان الأسلوب الذي روي به هذه القصة شبيهاً بأسلوب أغاني الحب البروفنسالية في فرنسا أو قصص العصر الفكتوري في إنجلترا.

شعر..

وعن الشعر بواصل الكتاب: “هذا إلى أنه قد مهد في الوقت نفسه الطرق أمام ثيوقريطس بأن كتب قصيدة في حياة الرعاة روى فيها موت الراعي دفنيس الذي كان حبه لكلو موضوع الروايات اليونانية في العصر الروماني. وقد كتب استسيكوروس نفسه رواية غرامية كانت بطلتها هلن نفسها. ولما فقد استسيكوروس بصره اعتقد أن هذه الكارثة لم تحل به إلا لأنه نقل إلى الخلق قصة خيانة هلن؛ وأراد أن يكفر لها عن ذنبه لأنها أصبحت وقتئذ إلهة فألف قصيدة أخرى أنكر فيها ما قاله في أغنيته الأولى، وأكد للعالم أن هلن اختطفت من بيتها قوة واقتدارا، وأنها لم تسلم نفسها قط لباريس؛ ولم تذهب إلى طروادة، بل بقيت سالمة في مصر حتى جاء منلوس لينقذها من محنتها.

وقد حظر الشاعر في شيخوخته هيمرا من سلطة فلارس الأكرجاسي المطلقة، فلما أصم فلارس أذنيه عن سماع نصحه انتقل إلى قطانا، حيث كان قبره الأثري من المناظر الرائعة في صقلية في العصر الروماني”.

العمارة..

وعن العمارة يضيف الكتاب: “وإلى غرب هيمرا كانت سيجستا، التي لم يبقَ منها إلا رواق ذو عمد دورية ناقصة تقوم الآن وسط ما يحيط بها من الأعشاب البرية. وإذا شئنا أن نتبين طراز فن العمارة الصقلية في أحسن صوره، كان علينا أن نخترق الجزيرة إلى الجنوب حيث كانت المدينتان العظيمتان سلينس وأكروجاس. فأما سلينس فقد شادت للآلهة الصامتة، في أثناء حياتها المحزنة منذ تأسيسها في عام 651 إلى أن دمرها القرطاجنيون عام 409، سبعة هياكل دورية الطراز، ضخمة ولكنها تعوزها الدقة وحسن الصناعة، يغطيها الجص المزين بالرسوم وعليها نقوس بارزة فجة. وقد دمر شيطان الزلازل هذه الهياكل في وقت غير معروف، ولم يبقَ منها سوى أعمدة محطمة وتيجان ملقاة على الأرض.

وأما أكروجاس أجرجنتم الرومانية  فقد كانت في القرن السادس أكبر مدائن صقلية وأعظمها ثروة. وفي وسعنا أن نتخيلها ممتدة من أرصفتها الشديدة الحركة، إلى سوقها الصاخبة، وإلى بيوتها القائمة على جانب التل، ثم إلى قلعتها الحصينة الفخمة التي تكاد أضرحتها لعلوها الشاهق أن ترفع المتعبدين فيها إلى السماء. وفي هذه المدينة رضي الأشراف ملاك الأراضي أن يسلموا زمام الحكم إلى دكتاتورية تمثل الطبقة الوسطى بنوع خاص، شأنها في هذا شأن معظم المدن اليونانية.

وفي عام 570 اغتصب فلارس زمام الحكم، وخلد اسمه على مر الأزمان بأن شوى أعداءه في داخل ثور من النحاس الأصفر؛ ولقد سره بنوع خاص أن استطاع صانعوا هذا الثور أن يستحدثوا فيه طريقة تجعل عويل الضحايا يخرج من طائفة من الأنابيب كأنه خوار الثور نفسه. لكنه رغم هذا كان هو وطاغية آخر من بعده يدعى ثيرون الرجلين الذين تمتعت المدينة في عهدهما في النظام السياسي والاستقرار، وبفضلهما قطعت شوطاً بعيداً في سبيل تقدمها الاقتصادي، حتى أصبح تجار أكروجاس كما أصبح تجار سلينس، وكرتونا، وسيبارس أصحاب الملايين في تلك الأيام، وكان ذوو المال الأقل منهم شأنا في بلاد اليونان القديمة، يحسدونهم شرا على ثرائهم العظيم، وينتقمون لأنفسهم منهم بازدرائهم، ويقولون إن الأثرياء الجدد مولعون بالضخامة والمظهر، ولكنهم يعوزهم الذوق وجمال الفن.

وما من شك في أن هيكل زيوس في أكروجاس كان يمتاز بضخامته، فقد وصفه بولبيوس بأنه “لا يعلو عليه هيكل آخر في حجمه أو تصميمه”؛ وليس في مقدورنا أن نقدر ما كان عليه من جمال، لأن الحروب والزلازل دمرته تدميرا، ثم سادت أكروجاس بعد جيل من ذلك الوقت؛ أي في عصر بركليز، هياكل أخرى أقل من هذا حجماً. وقد بقي أحدها وهو هيكل الوفاق بكامل أجزائه تقريبا، كما بقي من هيكل هيرا طائفة من العمد تؤثر في النفس بروعتها. ويكفي ما بقي من المعبدين للدلالة على أن الذوق اليوناني لم يكن مقصورا على أثينة وحدها، وعلى أن الغرب التجاري نفسه قد أدرك أن “الرقي ليس في الضخامة”. وفي أكروجاس ولد إمبدقليز العظيم، ولا يبعد أن يكون قد مات فيها أيضاً لا في فوهة بركان إتنا”.

سرقوسة ..

وعن سرقوسة: “وبدأت سرقوسة بالصورة التي هي عليها اليوم قرية محتشدة على لسان ارتجيا الجبلي الممتد في البحر. وكانت كورنثة قد أرسلت في القرن الثامن جماعة من المستعمرين مسلحين بأخلاق قوية وأسلحة متفوقة للاستيلاء على شبه الجزيرة الصغيرة. ولعلها كانت وقتئذ جزيرة، فبنوا أو وسعوا الطريق الذي يصلها بأرض صقلية، وطردوا معظم الصقليين إلى داخل الجزيرة. وازداد أبناؤهم كما يزداد أبناء الشعب القوي في الأرض الكثيرة الموارد، حتى أصبحت مدينتهم على مر الأيام أكبر المدن في بلاد اليونان كلها، فكان طول محيطها أربعة عشر ميلاً، وسكانها نصف مليون.

وقام العامة من سكانها الذين لم يكن لهم ما لسائر الأهلين من حقوق سياسية، ومعهم الصقليون المسترقون، بثورة على الأشراف ملاك الأراضي واستولوا منهم على أزمة الحكم في عام 495. ولكن الدمقراطية الجديدة إذا جاز لنا أن نصدق أرسطاطاليس. عجزت عن أن تقيم مجتمعا منظما، وما زالت كذلك حتى قام جيلون الجيلي في عام 485 واستبدل بها دكتاتورية مستعينا على ذلك بخطة من الغدر المستنير. وكان كالكثيرين من أمثاله حاكما قديرا لا يرعى عهدا ولا ذمة، يسخر من جميع المبادئ الأخلاقية والقيود السياسية، وجعل من أرتيجيا حصنا منيعا لحكومته، وفتح نكسوس. وليونتيني، ومسانا؛ وفرض الضرائب على شرقي صقلية كله ليستعين بها على جعل سرقوسة أجمل العواصم اليونانية. ويقول عنه هيرودوت متحسراً: “وبهذه الطريقة أصبح جيلون ملكا عظيما”.

ثم صلح حاله وصار بابليون صقلية المعبود، حين بعث خشيارشاي أسطوله ليهاجم أثينة، فسير القرطاجنيون عمارة بحرية يكاد عدد سفنها يساوي عدد مراكب الأسطول الفارسي؛ لتنتزع جنة الجزائر كلها من أيدي اليونان. وكان مصير الجزيرة هو نفس المصير الذي لاقته بلاد اليونان حين واجه جيلون هملكار في هيمرا في نفس الشهر أو في نفس اليوم كما تقول الرواية المتواترة الذي واجه فيه ثمستكليز خشيارشاي في سلاميس”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة