أنتهيتُ من كتابة آخر رواياتي ( الآلهة والجواميس في مديرية الأمن ) ، شبعت من بيئة الأباء والأجداد والقصب ، وغادرت رائحة السمك اليابس وحناء ضفائر بائعات الخاثر والقيمر ، تركت التاريخ الابدي لهذه البلاد وقلت للأمير النحيف أور ــ نمو : لا أعرف أسم الحرمس باللغة السومرية ولكن لسعته تترك ختماُ اسطوانا على رقبتي ، مدون عليه نصا سرياليا لأندريه بريتون يقول :بيئة الجنون الطين والسين وباروكة ماري انطوانيت .
يضحك الأمير السومري الذي يقول عنه التأريخ : أنه مات وشهوته بين أفخاذه. ويهمس بحنان العاطفة الألهية : كنا نعيشها تلك السريالية بكل تفاصيلها ، مكتوبة على شكل أساطير خلق وغراميات عشتار وملحمة لجلجامش.
أقفز من سرير القصب الى كرسي القطار ( الاكسبريس ) بين بروكسل وباريس أفتش في ثنايا الحلم عن غبش لذلك الصباح المائي الأزرق ، رائحة الخبز وموسيقى الضفادع المتألمة من اقدام الجواميس المنتشية من قيلولة الظهاري الناعسة في تخيل تلك البساطة وذلك الموت القنوع جراء صداع عابر أو جرح في القدم ولا طبيب ولا مشفى ، او ذلك الغرق الذي ينال من الصغار بسبب دشاديشهم الممزقة التي تعلق بالقصب فيغرقون في القاع الضحلة ويكونوا شهداء للنسيان الابدي لتلك البيئة المركونة الى النسيان فيما تعتقد الامم المتحدة : إن جنة عدن كانت فيها وأن الكتابة البشرية ولدت على طينها وكذلك العزف الموسيقي الأول في التأريخ.
هؤلاء المعدان بالنسبة لي مثل لعنة العشق في قصة روميو جوليت ، غرام مستعر في نشيد حكاية لبشر هم عرضة للوجع النساني منذ عهد السلالات وحتى اليوم ، وعليَّ أن اتخيل الأسكندر المقدوني عندما فكر لينزل من بابل ليغزو المناطق الضحلة في ارض سومر لأنها اقرب الامكنة التي توصله في بلاد فارس لينصت لوصف واحدٍ من قواده لأولئك المعدان الأوائل (( سُمرٌ ، وليس لديهم في الحرب سيوف ، بل عصا غليضة تقسم الهائمة لنصفين لأنهم يتعاملون مع نحاسة الجواميس ووحدهم من يستطيعون تريوضها وجعلها تغادر الماء الذي تعشقه ، لايحبون الطب ، ولا يأمنون لغريب نظراته غامضة ، وقد لاتوجد عندهم لهجة نفهمها لهذا يفضلون الاشارات مع الغريب ، ولكن فيما بينهم لهجة الكلام عندهم مثل الموسيقى ، لهذا يا مولاي ، من الصعب الذهاب اليهم ومن الأصعب ان نغريهم ليجئوا إلينا ،لقد ولدوا على سرير الماء وعليه سيموتون.))
هذا الموت في صورته القدرية يتسامى بأيقاع نشوة الاغنية الفرنسية ويمتزج معها بأيقاع سكة القطار ، هو ذاهب الى باريس ونبض قلبي يلهج كما أنفاس طفل غريق الى قرى الأهوار ، هناك الضوء معادن ثمنية والقصب نايات حفل تنصيب ملوك الصين وأكد والبيوت التي تنتزع من الريح جبروتها ومن الليل شهوة الغرام الفجول تؤطر ذاكرتي بذلك الأيواء الساحر وطفولتي وكتب المدرسة والحفاة وهم يفتعلون الدمعة من أجل أن يعفيهم اباؤهم من الذهاب مع قطيع الجواميس لأجل أكمال فروض المدرسة وكتابة الانشاء الهائل الذي كتبه المعلم لتلاميذ الصف الخامس (( تخيل وجه كاترين ديتوف قمرا واكتب عنه صفحة كاملة ))
ضحك الأطفال وسأل : من كاترين دينوف هذه.؟
رد تلميذ بجانبه : ربما هي تشبه تسواهن بنت عجيلة الحافوفة.
بين تسواهن وأيقاع الشهوة القرمزية في شفاه الممثلة الفرنسية يذهب القطار الفرنسي ( تاتلاس ) الى العمق الروحي لحضارة ذلك المكان ، وجه أيوب ونار أبراهيم وشواذ قوم لوط وسفينة نوح المصنوعة من خشب أعمارنا الطافية على مياه المحيطات في اساطير اللجوء السياسي والانساني والعاطفي لنا نحن أجيال بورخيس وجيفارا وعبد الحليم حافظ وبدر الرميض شيخ عشائر آل بو صالح.
يسكنني الطريق أنا المهاجر في ذاكرة الزمن المنسي هناك، زمن العطش وشواء السمك على روث الحيوانات ، زمن الغرام الشهي لليالي شهرزاد وشبعاد والليل الأيقوني في مساحات وضوء أباؤنا الذين يعرفون إن الموت اقرب من الرمش الى النظرة لهذا فهم أكثر بشر في الطبيعة يقنعون بالقدرية المفاجأة ، ولهذا لايرهبوها ، ويكفيهم زيارة واحد لمراقد الائمة في كربلاء والنجف ( ع ) حتى يقتنعوا عن طيبة خاطر بأي طارئ لهم أو لإبناءهم.
القناعة القدرية القدرية لدى المعدان تشبه صمود جيوش الاغريق أمام غزوات ملوك الفرس، تشبه صمود النساء في شهوتهم لدى غياب الذكور في جبهات القتال وسمفونيات المدافع ، لهذا هم أزليون في أدراك ذلك الاحساس بعمقه الديالكتيكي والميتافيزيقي ليسكنهم الحزن والفرح بذات اللحظة ونفس والمكان.
يمضي القطار…
يمضي نهر الفرات ..
يمضي نهر السين ..
وحياتنا واقفة عند تخوم الحلم بأن يكون أيواء موتنا القادم في ذلك القاع الطيني وليس في عيون المونليز.
أتخيل عبارة رامبو الهائلة (( من رقة الحس ضيعت أيامي )) . وأفتح نافذة لقراءاتي أيام الشباب واللهفة الهائلة لأتوسد وانا على سرير القصب أجساد ملكات وممثلات وعارضات ازياء فرنسا ، حتى إنني كنت اتخيل غضب ديغول على امنيتي الريفية ويصفعني بقوة المستعمر وهو يقول:الجزائر لنا وأحلامك ايضا.
أضحك وأرد : الجزائر لكم نعم ، ولكن خدي أستعمره الانكليز قبلكم..!
ضيعت أيامي وأريد أن أجمعها تحت برج أيفل واتمنى في حدائق قصر فرساي ان افترش لذة الشعر في حاسوبي واجلس على العشب الذي كان يمرح عليه ملوك آل باربون وعشيقاتهم وأكتب نشيداً لحنين المعدان . امتدح فيه مشيَّ المعيديات ، وافخاذ برجيت باردو ، وعقال ويشماغ أبي ، لدغة الحرمس والبعوض ، وروايات صاحبة مرحبا ايها الحزن فرانسواز سيغان ، العطارون الجوالون في صباح القرى وطقوس المندائيون في شواطئ السحر في الكحلاء وقلعة صالح وسوق الشيوخ ، أنحناءة جاك شيراك أمام نصب الجندي المجهول في بغداد .
هواجس وأشياء كثيرة سيحملها نشيدي المفعم بالتعاويذ والطلاسم والطقوس والشهوات.
النشيد الأكبر لروحي في تمجيد ذلك المكان الخالد حتى تسمع اليونسكو صدى نحيب الف سلف لمعدان الله كي ينقذوا ابي من الموت عطشا وكي ينقذوا الجواميس وهي محرومة من قيلولة الماء في الظهاري التي اعلنت ابواقها نفير حروب السلالات المقدسة ومرت قرب ضفافها قوافل التجار الذاهبين الى الهند ليجلبوا الجواهر التي ستطعم تاج سرجون الأكدي والملك فيصل الحجازي.
النشيد الذي هو صدى روحي ، والمزاج الضوئي لأجفاني وهي تراقب سير القطار ، ليهتف قلبي : ايها القطار لاتعلو بأقدامك الى الشمال ، أهبط الى الجنوب أرجوك ، فهناك نسيت واجبا مدرسياً عليَّ أن اصف فيه وعلى مدى ورقة من الشهوة وجه الممثلة الباريسية.
يضحك ( التيتي ) ويطلب مني البطاقة ، يقرضها ويقول :الاحلام في القطارات السريعة ممنوعة، أحلم وانت تحتضن افريقية سنغالية في غرفة الفندق.
أضحك وأنا اعيد أستذكار وجه رامبو والنساء الحبشيات فأكتب : البهجة في الجسد الاسود أنكَ تعطي من شهوة جسدك القبلة والنار. ولكن البهجة في عطر المعدان وانوثته أنك تعطي القبلة والنار وصلاتكَ.!
هذا يعني أنك اصبحت كافرا ، يرد قاطع التذاكر ، فأقول نعم كل الاناشيد نعسانة في البر الفرنسي إلا أناشيد الجواميس وقرى القصب وآلهة الطين فهي صاحية وسكرانة من نشوة المواويل والنحيب العاشوري وطابوق قبر أبي المهدم.أنها صلاتي ، فلا تقترب منها لأنها لاتنتمي لثقافتك ومزاجك.
يحترم الرجل كلامي ويبتعد ، وهو يقول :حتى لو كنت بدون تذكرة فسوف لن اغرمك.
تقترب باريس ، أفق قضاء الجبايش يقترب أيضا ، أسمع من اديث بياف شيئا من رقة الهوس في نشوة القبلة مع كأس نبيذ أحمر.
أترنح فيضحك ركاب القاطرة ، يصفقون ، لأصرخ في الوجوه :ضحك بلا سبب من قلة الأدب…!
يصمتون ، اغلق حنجرة بياف بقبلة على شفتيها وافتح زر الراديو القديم لأسمعَ نشوة الابوذية ونواح جدي في غناءه المدهش ، كأنه نشيد التاريخ والخلق ونزول آدم وبداية تدوين الاساطير.
يغني جدي فيبكي الماء دموعه أمواج شوق تسكن القرى فيُصفقُ الطير والمطر والنائمون في تلال الأثر .
هذا النشيد التأريخي لمعدان باريس أكتبه أنا في حدائق قصر فرساي ، بعيدا عن حدائق الله في الجنوب القصي. فلقد وصل القطار ، وعليًّ أن اذهب مع اندهاشي لأجوب المدينة الساحرة ، أكتب نشيد روحي واقارنهُ بأناشيد اراغون لأليزا وأناشيد النواب للريل وحمد ، أدون الرغبة في النهد السنغالي وأُبقيَّ لهاث الحبشيات لشاعر شارفيل رامبو..
آلان أنا امام قوس النصر ، واتمنى اقواس القصب في مضيف جدي الذي تركه إرثاً عالمياً لأبي ، وأبي تركه لي ، وأنا تركتته للريح والصمت ومواسم الهجرة الدامعة.
أكتب النشيد ، الشوارع ، المسلة المصرية ، الشانزلزيه ، متحف بومبيدو واللوفر، حديقة بولونيا ، ملعب باريس سان جيرمان ، أيفل وجسور نهر السين وقصائد غيوم ابولونيور والمكتبة العامة في ناحية العكيكة ، ونزاعات عشائر بني خيكان حول حقول الشلب ، ورايات العلوي سيد رحمة وفوادة وسيد يوشع والخضر حي الدارين وقبر فكتور هيجو…
خلط بين موسيقى القلب وقبلة الوسادة والشفتين.
أغراءات الروح هي أغراءات النجوم لغروب الشمس حتى تغادر ويأتي الليل بسهر الحبايب وزوارق الصيادين وضوء القمر ونيونات الصخب في محطة نورد باريس.
من هناك بدأت كتابة النشيد وانتهيت الى قصر فرساي ، أجمع طفولة التأريخ والاواني الخزفية المكسرة بسبب معاول اللصوص والمنقبين ، أجمع اختام جوازات السفر بين المدن المترامية الاطراف على خارطة ابن بطوطة وكولمبس ودمعة ابي .
النشيد المتقد من نار الكلمات ولذتها الحسية والروحية ، تبتكره المخيلة وعلى طول الطريق بين باريس والناصرية يمشي ( الريل ) ويسجل تفاصيل الطريق بعيون مرتعشة ، ومع الرعشة تكتب الكلمات فضيحتها عن أولئك الناس الذين كادوا ان يتعرضوا للأنقراض بسبب شدة القصف الصاروخي ومعارك شرق دجلة ومشاريع التجفيف والتهجير.
لكن الجاموس كان من الذين صعدوا مع نوح الى السفينة لهذا فهو لايموت ولاينقرض.
النشيد وباريس ووجه كاترين دينوف وليل قرى المعدان. لوحة تكعيبية رسمها كاندنسكي بسبب حبه لمزاج جلجامش ونحيبه على موت خله انكيدو.
النشيد الروحي لذلك المكان.
يصنع للعشق مسافة القبلة ومطارح الأجساد على وسائد القصب.
السماء صفاء
وباريس خجولة كمرايا نهد في شاشة سينمائية.
العطر في الوشم على الخد
العطر في شفتي سانت لوران
العطر في دمعة أمي وهي تنوح على جنديتي :
أنا قلت يا علي ..
والشمال قال :هاتيه لي…!
هي باريس والسين وثورات الجزائر وبريد سانت اكزبوري…
المديح الى الماء وليس الى الصحراء
تلك باريس تتضامن معي…
وتهمس .
فلياتوا :نوافق على لجوء المعدان.
أرد : لكن المعدان لن يوافقوا……………!