*العراق، إن أراد استعادة دوره الإقليمي الريادي، مطالب بأن يبدأ من أبسط قواعد البروتوكولات الدبلوماسي : وضع العلم الصحيح ، في المكان الصحيح ، للضيف الصحيح ؟ .
انتشرت خلال الساعات القليلة الماضية على جميع منصات التواصل الاجتماعي صور تظهر إن الأخطاء البروتوكولية الفادحة التي شهدتها القمة العربية في بغداد (17 أيار 2025) ليست مجرد هفوات تنظيمية عابرة، بل كارثة دبلوماسية كاملة الأوصاف، تعكس عمق الفوضى الإدارية والجهل المؤسسي الذي ينخر في بنية الحكومة العراقية. الصور المتداولة التي أظهرت علم البحرين بدلاً من علم قطر خلف أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، إلى جانب السجادة الحمراء الموضوعة بشكل مهين على الطرف الأيمن من سلم الطائرة اثناء نزوله ، وصولاً إلى الكارثة الأكبر المتمثلة في إعطاء الأولوية لوزراء الخارجية العرب في إلقاء الكلمات على حساب أمير دولة قطر، تكشف عن إخفاق غير مسبوق في أبسط قواعد الدبلوماسية والبروتوكول. هذه الأخطاء، التي توجت بمغادرة الشيخ تميم القمة على عجل احتجاجاً على هذا التجاوز الصارخ، ليست مجرد “زلة” يمكن تبريرها، بل فضيحة دولية تجسد العشوائية والارتجالية التي باتت سمة ملازمة للتنظيم الحكومي في استضافة الأحداث والمؤتمرات الدولية في العراق.
وهذا مما قد يترتب عليه فقدان المصداقية الدبلوماسية لان دولة قطر ليست مجرد دولة خليجية، بل قوة إقليمية مؤثرة تتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي واسع، وعلاقاتها مع العراق تحمل أهمية استراتيجية في ظل التوازنات الإقليمية الهشة. ووضع أمير قطر بهذه الطريقة المحرجة، خاصة وبعد استضافته للرئيس الأمريكي قبل ساعات من قدومه الى بغداد لمواصلة دوره بدعم الحكومة العراقية ، لا تعكس فقط إهمالاً بروتوكولي، بل تُظهر ازدراءً ضمنياً قد يُفسر على أنه موقف سياسي متعمد . هذا الإخفاق يضع العراق في موقف محرج أمام المجتمع الدولي، ويُضعف قدرته على تقديم نفسه كمضيف موثوق مؤتمرات إقليمية أو دولية مستقبلية.
وحتى ان هذا الحدث قد يكون له تداعيات اقتصادية محتملة مع دولة قطر والذي يعتبر بدوره من أبرز المستثمرين في المنطقة، ودورها في دعم المشاريع الاقتصادية والإغاثية في العراق ليس بالهين والأمر السهل الذي يمكن أن يتم التغاضي عنه أو استبداله. مثل هذه الأخطاء قد تُترجم إلى تبريد في العلاقات الثنائية وهناك من يستغلها لغرض تعميق الفجوة بين البلدين الشقيقين، وربما تقليص الاستثمارات القطرية أو إعادة توجيهها إلى دول أخرى تُظهر احتراماً أكبر للرموز الوطنية والبروتوكول الدبلوماسي. في سياق اقتصادي هش أصلاً، لا يستطيع العراق تحمل خسارة شريك مثل قطر على الأقل في الوقت الحالي.
القمة العربية كانت فرصة للعراق لتعزيز دوره كمركز للحوار العربي، لكن هذه الأخطاء حوّلتها إلى مادة دسمة للانتقاد. ومغادرة أمير قطر للقمة لم تكن مجرد احتجاج شخصي، بل رسالة سياسية واضحة تعكس استياء دولة محورية من التعامل غير المهني. هذا قد يُعيق قدرة العراق على لعب دور قيادي في الجامعة العربية مستقبلاً، خاصة إذا استمرت مثل هذه الأخطاء في تقويض ثقة الدول الأعضاء.
وهذه الأخطاء البروتوكولية المتكررة والتي حدثت في السابق والآن تحدث بنفس الصيغة في قمة بغداد تلقي بظلالها على سمعة العراق كدولة مضيفة للمؤتمرات الدولية لسنوات قادمة. الدول والمنظمات الدولية، التي تعتمد على الكفاءة والدقة في التنظيم، ستصبح أكثر حذراً في قبول دعوات العراق لاستضافة فعاليات كبرى. هذا الإخفاق يعزز الصورة النمطية عن العراق كدولة تعاني من الفوضى والعشوائية الإدارية، مما يُضعف مكانتها في المنافسة مع دول إقليمية أخرى مثل السعودية أو الإمارات أو قطر، اللتين تُظهر كفاءة عالية في تنظيم القمم الدولية وزيارات رؤساء الدول وما شاهدناه خلال الأيام القليلة الماضية من التنظيم الذي تجسد في أدق التفاصيل لزيارة الرئيس الأمريكي ترامب للمنطقة.
هذا يعني أن هناك خللاً هيكلياً في دائرة التشريفات والمراسيم التابعة لرئاسة الوزراء، وغياباً للتنسيق مع وزارة الخارجية والتي تمتلك خبراء مختصين في الدبلوماسية. اختيار أشخاص غير مؤهلين لقيادة اللجان التنظيمية، بناءً على العلاقات الحزبية أو الشخصية ، هو السبب الجذري لهذه الكارثة.
وما حدث في قمة بغداد ليس مجرد خطأ عابر، بل تعبير صارخ عن الفساد الإداري والتخبط الذي يعصف بالمؤسسات العراقية. كيف يمكن لدولة تطمح لقيادة المشهد العربي أن تفشل في تمييز علم دولة قطر عن علم البحرين؟ وكيف يُسمح بوضع السجادة الحمراء بشكل يُسيء إلى كرامة ضيف بحجم أمير قطر؟ والأدهى، كيف يمكن تبرير إعطاء الأولوية لوزراء خارجية لإلقاء كلمتهم في القمة على حساب رئيس دولة، في خرق واضح لأبسط قواعد البروتوكول؟ هذه ليست أخطاء فردية، بل نتاج نظام إداري متهافت يعتمد على المحسوبية الشخصية والحزبية بدلاً من الكفاءة.
تبريرات الحكومة العراقية، التي حاولت التقليل من شأن الحادثة، لم تُقنع أحداً، خاصة مع تسريبات بعض المواقع والصحافة القطرية التي كشفت عن عمق الحرج الذي شعر بها الوفد القطري. هذا الإنكار ومحاولة طمس الحقائق يزيد من تفاقم الأزمة، حيث يُظهر غياب الشفافية والمسؤولية. لو كان هناك تنسيق فعلي بين دائرة التشريفات ووزارة الخارجية، وبإشراف خبراء مختصين، لما وصلنا إلى هذا المستوى من الإحراج الدولي.
ولكي يستعيد العراق مكانته كمضيف موثوق، يجب عليه العمل فورآ لتشكيل لجنة مختصة كفؤة ومهنية في إعادة هيكلية دائرة المراسيم والتشريفات التابعة للأمانة العامة لرئاسة الوزراء:
*إعادة هيكلة شاملة وجذرية لدائرة التشريفات والمراسيم بكافة فروعها ومكاتبها، مع الاعتماد على كوادر مؤهلة تمتلك خبرة في الدبلوماسية والبروتوكول.
*إشراك وزارة الخارجية بشكل مباشر في تنظيم الفعاليات الدولية، مع إعطاء الأولوية للخبراء بدلاً من المحسوبيات الحزبية والعلاقات الشخصية.
*إجراء تدريبات مكثفة للكوادر التنظيمية، مع محاكاة سيناريوهات بروتوكولية لضمان عدم تكرار مثل تلك الأخطاء.
*إنشاء لجنة رقابية مستقلة تُشرف على التحضيرات للأحداث الدولية، مع إلزامها بتقديم تقارير علنية لضمان الشفافية والنزاهة والكفاءة وبالأخص الصرفيات والأموال التي يتم رصدها من ميزانية الدولة لمثل تلك الفعاليات والمؤتمرات الدولية وأن يتم بأشرف هيئة النزاهة الاتحادية وديوان الرقابة المالية.
ومما زاد من سوء هذا الحدث خروج المتحدث الرسمي باسم الحكومة العراقية السيد “باسم العوادي” يوم أمس ومن خلال حوار مع الإعلامية “فرح اطميش” من على قناة الفرات الإخبارية حيث شن هجوما لاذعا على العرب بعد انتهاء أعمال القمة العربية حيث وضحت طريقة كلامه و عصبيته وعدم دبلوماسيته في تناوله بصورة هادئة ورزينة وبالأخص بعد أن شن هجومه اللاذع بقوله باللهجة العامية العراقية الدارجة :” چا ليش اعطينا 40 مليون دولار مساعدات وصرفنا 300 مليون دولار على القمة (احنه سباع احنه منخاف) ” ويضيف في كلامه :” التعاطي السياسي مع البلدان العربية سيبنى على الدروس التي أخذناها من مستوى المشاركة والتفاعل مع القمة العربية” ويوضح في حواره :” إلي يندك بينا نندك بي.. إحنا جذع نخلة والي نوگع عليه انكتله والي يوگع علينا يتعور، نحن العراق نشرّف ولا نتشرف”. تصريحات المتحدث الرسمي باسم الحكومة السيد ” العوادي”، بهذه الصورة المشحونة بالنقد اللاذع والهجوم الحاد على مستوى التمثيل العربي، مثلت قنبلة دبلوماسية ستُكلف العراق ثمناً باهظاً، حيث كان الأجدر به اعتماد لغة رصينة تُعبّر عن إحباط الحكومة بهدوء، بدلاً من خطاب استفزازي سيُفاقم الأزمة حين تتناقلها وسائل الإعلام الخليجية والعربية خلال الساعات القادمة وهذا ما نتوقعه . هذه العصبية الشخصية ، التي غذّتها العشوائية والمحسوبية في اختيار غير المؤهلين لتنظيم الحدث، كما كشفت التسريبات الإعلامية، لم تكن لتحدث لو تم التنسيق مع خبراء دائرة التشريفات ووزارة الخارجية، مما يُنذر تداعيات كارثية على مكانة العراق الدبلوماسية إقليمياً ودولياً. وغيرها من التعابير والجمل والعبارات الحادة النقدية التي خرجت من كلام المتحدث الرسمي السيد العوادي مما سوف ينعكس سلبا دون شك على مكانة العراق الدبلوماسية لدى الدول العربية والخارج.
هذه الأحداث التي جرت في السابق والتي ما تزال تتكرر بصورة مستفزة الإن وبنفس الصيغ ليست مجرد إحراج مؤقت، بل جرس إنذار يُنذر بتداعيات استراتيجية طويلة الأمد. إذا لم تُعالج الحكومة العراقية هذه الأزمة بجدية، وتتخذ إجراءات جذرية لتصحيح الخلل الإداري، فإنها ستظل رهينة صورة الدولة الفاشلة التي لا تستطيع حتى تمييز أعلام ضيوفها. في عالم الدبلوماسية، حيث الرموز تتحدث بصوت أعلى من الكلمات، فإن مثل هذه الأخطاء ليست مجرد هفوات، بل جرائم سياسية تُكلف الدولة سمعتها ومكانتها.