في مشهدٍ شعريٍّ تتنازعه الحداثة والتقليد، يقف الشاعر والمترجم حامد خضير الشمري شامخًا كجسر يربط بين الضفاف، شاعرًا يكتب العمود برشاقة العارف، ومترجمًا ينهل من ينابيع الشعر العالمي ليقدّمه لقارئه العربي بحرفية المحترف وذائقة العاشق.
ولد الشمري في مدينة الحلة – ناحية أبو غرق بتاريخ 1 تموز 1956، وفيها أكمل مراحل دراسته الأولى، ثم التحق بكلية الآداب – قسم اللغات الأوروبية، فدرس الإنكليزية والألمانية وتخرج عام 1980، واضعًا بذلك لبنة أساسية في مشروعه المزدوج: الشعر والترجمة.
منذ تسعينيات القرن الماضي، لم يكن الشمري مجرد شاعر يكتب في عزلته، بل كان فاعلًا في المشهد الثقافي العراقي، إذ انتمى إلى اتحاد الأدباء والكتاب في بابل عام 1993، وأسهم بتأسيس جمعية الرواد الثقافية المستقلة، كما شغل مناصب تحريرية وثقافية أبرزها نائب رئيس تحرير مجلة “أهلة”، ومسؤول القسم الثقافي في صحيفة “الإقليم“.
وشارك في عشرات المهرجانات الشعرية داخل العراق وخارجه، منها مهرجان المربد ومهرجان الجواهري ومهرجانات الحشد الشعبي، ومثّل العراق في مهرجانات دولية مثل مهرجان البيان في إيران ومهرجان الإسكندرية للشعر العربي.
ينتمي حامد الشمري إلى مدرسة الشعر العمودي، ويُعدّ من الشعراء الذين أخلصوا للوزن والقافية دون أن يتقوقعوا في قوالب جامدة. في مجموعاته الشعرية، مثل “نقوش على كوفية أبي جهل” و”قاطع الأحجار و”مرويات شيخ البادية”، يقدّم قصيدة متينة البناء، مشبعة بالتأمل، ثرية بالصور، تتكئ على إرث شعري عميق لكنها لا تنزلق إلى التقليد المجرد.
يرى النقاد في شعره امتدادًا واعيًا للعمود العربي، ويثنون على قدرته على المواءمة بين الرؤية الفكرية واللغة الشعرية، ويشيرون إلى امتلاكه صوتًا خاصًا يتجنب النمطية، بل يتجدد في الثيمة والأسلوب مع الحفاظ على جمالية الإيقاع.
في مجال الترجمة، يُعد حامد الشمري من أبرز من نقلوا الشعر العالمي إلى العربية. تميز بترجماته الشعرية التي لم تكتفِ بالنقل اللغوي، بل سعت إلى نقل روح القصيدة. نذكر من أعماله في هذا الباب:
قصائد حب عالمية” (199) – خمائل” و”فراديس”، وهما مختارات شعرية عالمية. أنا أخماتوفا” (2023)، وهو كتاب يقدّم ترجمات منتقاة من الشاعرة الروسية الشهيرة. كما ترجم أعمالًا عراقية وعربية إلى اللغة الإنكليزية، من بينها “نقوش على أسوار بابل“.
يثني المتابعون والنقاد على ترجماته باعتبارها جسرًا حيويًا بين الثقافات، ويُشيدون بقدرته على إيصال النَفَس الشعري دون افتعال أو تشويه، وهو ما يدلّ على تمكّنه العميق من اللغتين الأصلية والمترجَم عنها.
لم تمرّ مسيرته دون تقدير، فقد حصل على درع الإبداع (2012)، ودرع بغداد (2015) من منظمة الكلمة الرائدة، إضافة إلى العديد من الشهادات التقديرية التي تكرّم دوره كشاعر ومثقف ومترجم.
وحامد الشمري ليس مجرد اسم في قائمة الشعراء أو المترجمين، بل هو شخصية ثقافية متعددة الوجوه، حافظ على جماليات العمود الشعري في زمن الميل إلى التفكيك، وفتح النوافذ على العالم عبر ترجمات راقية. إنه باختصار صوت أصيل من الحلة.. ونافذة مشرعة على العالم.
ومن شعره هذه القصيدة الرائعة:
كفاكَ صمتا فإني كدت أنفجر فهل بصدرك قلب أم به حجر
أحوم حولك ظمأى الروح من كبَتٍ والحب ينثر أشلائي فأستعر
قد كان ثلجك نارا في دمي اندلعت فافتح ذراعيك علي فيك أنصهر
أشم ريحك عن بعد ويطربني في هدأة الليل سرا صوتك العطر
ما زال قلبي كالصحراء قاحلة فاسكب رضابك حتى يهطل المطر
أومئ بكفك تأتِ الروح طائعة وكل ما فيَّ منك الأمرَ ينتظر
وأنت سجادتي في كل نافلة وأنت في الليلة الظلماء لي قمر
تجسدت فيك أحلامي بأجمعها إن الرجولة دوما فيك تختصر
أنا الأميرة إن شرفت مملكتي ما عدت أعنى بمن غابوا ومن حضروا
وقصيدته هذه تنتمي إلى شعر الغزل العاطفي، وهي مكتوبة على البحر الكامل، ويبدو من نَفَسها العاطفي أنها نُظمت بلسان أنثوي متكلم، تتوجه بالخطاب إلى محبوبٍ تترنح مشاعرها على أعتاب صمته وبروده. فهي صرخة وجدانية تمزج بين العتب والشوق والانجذاب الكلّي، إذ تبدأ بنداء صريح:” كفاك صمتًا فإني كدت أنفجر، لتعبّر عن حالة احتقان شعوري أوشك على الانفجار، نتيجة صمت الطرف الآخر. وتزخر ابياتها بصور تشبيهية واستعارية حسية: أحوم حولك ظمأى الروح” و”الحب ينثر أشلائي” تصويران يعكسان شدة التعلق والتشتت. ثلجك نار” و”فيك أنصهر” تنقل تقلبات شعورية متضادة بين البرود والاشتعال. أنت سجادتي… وأنت قمر” فيها إسقاط ديني وعاطفي يوحي بالتقديس والانبهار.
وتتجلى الشاعرية في لغتها وأسلوبها، فهي ناعمة، مشحونة بالعاطفة والأنوثة، يبرز التكرار والتضاد كأدوات أسلوبية (الثلج/النار، الصمت/الانفجار) والفاظها منتقاة بعناية، وذات حمولة شعورية عالية (الظمأ، المطر، الانصهار، العطر).والقصيدة لا تكتفي بالتغني بالمحبوب، بل تؤسس له هالة من السيطرة العاطفية والروحية، فهو الحاكم، وهي الأميرة، وهو القمر، وهي المشتاقة إلى النور. إنها حالة عشق كلي وانقياد إرادي.