مقامة حمار بوريدان

مقامة حمار بوريدان

ترتبط قصة ((حمار بوريدان )) , بتجربة فكرية نُسبت إلى الفيلسوف الفرنسي جان بوريدان الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي , اشتهر بوريدان بطرحه لمعضلة عقلية حول صعوبة اتخاذ القرار عندما تكون الخيارات متساوية تمامًا , وتُعرف هذه المعضلة باسم (( معضلة حمار بوريدان )) , تدور القصة حول حمار تُرك فترة من الزمن دون طعام أو ماء , حتى بلغ به الجوع والعطش أشدهما , ثم وُضع أمامه حوضان : أحدهما يحتوي على الماء , والآخر على الطعام , وكان كلا الحوضين يبعدان نفس المسافة عن الحمار, أحدهما إلى يمينه والآخر إلى يساره , طرحت التجربة سؤالاً فلسفياً : (( إلى أي الحوضين سيتجه الحمار أولاً؟ )) ,  فبما أن الحمار في حاجة إلى كليهما , وبما أن المسافة متساوية , فمن المفترض أن يختار أحدهما بشكل عشوائي , لكن وفقاً للتجربة , لم يستطع الحمار اتخاذ القرار بسبب تساوي الدافعين (( الجوع والعطش )) وتساوي المسافة , فظل واقفاً حائراً , عاجزاً عن ترجيح أحد الخيارين , حتى مات جوعاً وعطشاً دون أن يتحرك.

تهدف هذه القصة إلى تسليط الضوء على الإشكالية الفلسفية المتعلقة بالحريّة والإرادة والاختيار , وتُستخدم كمثال على ما يمكن أن يحدث عندما يتجمد الكائن الحي أمام خيارين متساويين , دون مرجّح خارجي يحفزه على اتخاذ قرار, أن الهدف من المقال هو استخلاص دروس مستوحاة من هذه الحكاية القديمة لعلها تضيء بعض السبل لمواجهة التحديات الراهنة ,  حين نربط هذه الحكاية بالوضع الراهن في العراق , حيث يواجه الشعب خيارات صعبة في ظل انتشار الفساد وتأثيره على مختلف جوانب الحياة , وهكذا فأن شلل التردد في مواجهة الخيارات المتشابهة (ظاهرياً) , يؤدي الى الموت جوعا كما حمار بوريدان , بسبب عدم قدرته على اتخاذ قرار بين خيارين يبدوان متماثلين , ولو اسقطنا هذا الدرس على الوضع العراقي , يتضح كيف أن التركيز على الانقسامات الطائفية أو الحزبية الضيقة قد يشل قدرة الشعب على اتخاذ خيارات حاسمة تخدم مصلحته الحقيقية , ومن هنا تأتي أهمية تجاوز هذه الانقسامات والتركيز على الهدف الأسمى وهو بناء دولة خالية من الفساد.

لقد أدى سعي الحمار نحو (( الخيار الأفضل )) عندما تساوت الخيارات إلى ضياع الفرص المتاحة, مثلما قد يتردد البعض للتخلص من واقع الفساد في العراق , في دعم مبادرات إصلاحية جزئية بدعوى أنها (( ليست كافية )) , وعدم اغتنام الفرص المتاحة لتحقيق تقدم تدريجي , حتى لو لم يكن مثالياً في البداية , بدلاً من الاستسلام لليأس وانتظار الحل (( المثالي)) الذي قد لا يأتي أبداً , وتبرز ايضا الحاجة إلى معايير واضحة لاتخاذ القرار , حيث أن افتقار حمار بوريدان إلى معايير واضحة للمفاضلة قاده إلى الهلاك , من هنا تدعو الضرورة الشعب العراقي إلى وضع معايير واضحة ومحددة , لتقييم أداء المسؤولين والكيانات السياسية , بحيث تكون النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد في صميم هذه المعايير , وأهمية محاسبة المقصرين بناءً على هذه المعايير دون محاباة أو تساهل , لاسيما وأن الشعب العراقي يمتلك قوة جماعية يمكن أن تحدث التغيير , ووجوب حث الشعب على تجاوز حالة السلبية واللامبالاة والمشاركة الفعالة في المطالبة بالإصلاح ومكافحة الفساد بكل السبل المتاحة (سلمياً وقانونياً) , وأن التغيير الحقيقي يبدأ من إرادة الشعب وتصميمه على بناء مستقبل أفضل.

ان الحرية عند سارتر هي الاختيار , والاختيار عنده مسؤولية , والإنسان الحر هو القادر على الاختيار لأنه يثبت وجوده عبر الفعل , والفعل هو الاختيار , لهذا يصف سارتر المتموضعين في الوسط في المنطقة الرمادية الخائفين من تحمُّل تبعات اختياراتهم بأصحاب الأيدي البيض لكن لا أيادي لهم , بمعنى أن أياديهم بيض لأنها لم تستعمل وكأنها غيرموجودة , وبالرغم من أنه في بعض الأحيان يكون في عدم الاختيار حكمة , إلا أن الاختيار يبقى أفضل من المراوحة في المكان نفسه والانتظار وخسارة كل شيء ,

وربما لو فكر حمار بوريدان خارج الصندوق وحاول إيجاد طريقة أخرى لحل معضلته (كتحريك إحدى الكومتين) , لما انتهى به الأمر للموت جوعاً , فلابد من تجاوز الانغلاق الفكري والانفتاح على الحلول , وتشجيع الشعب العراقي على الانفتاح على أفكار وحلول جديدة لمكافحة الفساد , والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة , وتطوير استراتيجيات مبتكرة تتناسب مع الواقع العراقي , أن حكاية حمار بوريدان , على بساطتها , تحمل دروساً عميقة يمكن أن تلهم الشعب العراقي في معركته ضد الفساد , أن تجاوز حالة التردد , واغتنام الفرص المتاحة , ووضع معايير واضحة , وتفعيل الإرادة الجماعية , والانفتاح على الحلول المبتكرة , هي مفاتيح النجاح في بناء عراق مزدهر وخالٍ من الفساد , ورسالة أمل وتفاؤل بقدرة الشعب العراقي على تحقيق التغيير المنشود.

أحدث المقالات

أحدث المقالات