يتوقد صاحبنا الثمانيني حبا , وينشر على صفحته ك , (( اختيار, عدنا الى الصبر ندعوه كعادتنا في النائبات فلم يأخذ بأيدينا )) , بيت احمد شوقي الشهير من قصيدته (( أضحى التنائي )) , وحسب المعجم : النائبات : جمع نائبة وهي المصائب ,ويظهر المستوى البلاغي حين يقول جئنا الى الصبر : حيث شبه الصبر بالانسان الذي يُطلب عونه ونجدته فهي استعاره مكنية فلم يأخذ بأيدينا , وفي المستوى الدلالي , يعني انه ما زال الشاعر متحسرا ً فلا يجد الا الصبر ليلجأ إليه , وينتمي به كعادتة في المصائب لكن الصبر يفاجأه هذه المرة ولا يسعفه ولا يساعده .
يقول المثل ألأنكليزي : ((A watched pot never boils )) , وترجمته بالعربي ((الإناء المُرَاقب لا يغلي أبدا )) , ومعناه إن الحاجة التي تنتظرها تحصل غالبًا بعد ان تأخذ وقت في ذهنك أطول من وقتها الحقيقي , ويمكن ألا تحصل أصلا مادمت تنتظرها وتترقبها لتحصل بسرعة , فمن الأفضل إن تنشغل عنها وتدعها تاخد وقتها الطبيعي ,
لذلك يقال إن الصبر هو فن العثور على شئ آخر تقوم به , وليس مجرد التحمل و الإنتظار و مراقبة الوقت كما قد يبدو, فالإنشغال بأعمال أخرى يعتبر أكثر أنواع الصبر نجاحًا و استمرارًا.
يا له من بيت شعر عميق يحمل بين طياته الكثير من المعاني , ويستلهم منه ما يعكس الإحساس بالخذلان عند الحاجة إلى الصبر, وخصوصا عندما ينادي الصبر فلا يجيب , بما يعبر عن صرخة في وجه نوائب الدهر , ولطالما تغنى الشعراء بالصبر, وعدوه مفتاح الفرج , وبلسم الجروح , وسلاح المؤمن في وجه نوائب الدهر , لقد تربينا على حكايات الأنبياء والصالحين الذين تجرعوا مرارة البلاء بصبر جميل , فكان العاقبة لهم خيرًا, حتى بات الصبر في ثقافتنا أشبه بصديق وفيّ , نلجأ إليه في الشدائد , ونستدعيه عند اشتداد الكرب , واثقين من أنه سيقف بجانبنا , يشد أزرنا , ويهدئ من روع قلوبنا.
الصّبرُ شجرةٌ جذورها مرة ولكن ثمارها شهية , ومن تذوق حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصّبر , وقديما قالوا : ((الصّبر على عطش الضر, ولا الشرب من شِرْعة منٍّ)), وأن أقوى المحاربين هما الوقت والصّبر , وبالصّبر واليقين تنال الإمامة في الدين , فلا بد من الصّبر ليجتاز العابدون البلاء , وصبرٌ قليلٌ يساوى راحة لعشرات السنين , وقد أبدع المتنبي حيث قال :(( كالخيلِ يمنعُنا الشّمُوخُ شِكايةً , وتئِنُ من خلفِ الضلوعِ جروح ُ, كم دمعةٍ لم تدرِ عنها أعينٌ , و نزيفها شهدتْ عليهِ الروح ُ)) , يقول غازي القصيبي قريب من هذا المعنى :(( تبكي الجيادُ.. إذا ترجَّل فارسٌ , ومن الصهيل.. توجّعٌ.. وَعَذابُأرأيت دَمعَ الخيلِ؟ كم من عبرةٍ في الروحِ.. لم تعلم بها الأهداب )) .
ولكن , ماذا لو خذلنا هذا الصديق ؟ ماذا لو ناديناه في لحظة ضعف , وتوسلنا إليه في ساعة يأس , فلم يجب ؟ هذا بالضبط ما يجسده بيت أمير الشعراء أحمد شوقي : (( جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا في النائبات فلم يأخذ بأيدينا )) , إنه صرخة مريرة تخرج من قلب مثقل بالهموم , قلب اعتاد أن يستمد قوته من الصبر , ولكنه وجده هذه المرة غائبًا , أو عاجزًا . أو ربما غير مكترث بآلامه , هذا الشعور بالخذلان من الصبر ليس غريبًا على النفس البشرية , فلكل منا لحظات عصيبة يشعر فيها أن طاقته قد نفذت , وأن قدرته على التحمل قد وصلت إلى أقصاها , في تلك اللحظات , نتمنى لو أن الصبر يتدخل كقوة خارجية , يمسح على قلوبنا , ويمنحنا دفعة جديدة لمواجهة ما تبقى من الطريق , ولكن الواقع قد يكون مغايرًا , فقد نجد أنفسنا وحيدين في مواجهة الألم , وأن الصبر ليس سوى فضيلة داخلية تحتاج إلى بذل جهد مضاعف للحفاظ عليها.
يطرح هذا البيت تساؤلات عميقة حول طبيعة الصبر وحدوده , هل الصبر قوة سحرية تأتي لنجدتنا متى شئنا ؟ أم أنه قدرة كامنة في داخلنا تحتاج إلى تفعيل وتقوية ؟ وهل هناك حدود لقدرة الإنسان على الصبر والتحمل ؟ قد يكون شوقي في هذا البيت لا يعبر عن يأس مطلق من الصبر, بل عن لحظة إنسانية صادقة يشعر فيها المرء بوطأة المصيبة لدرجة أنه يتمنى لو أن الصبر يحمله حملًا , وينقذه من براثن الألم دون الحاجة إلى بذل أي جهد , إنها لحظة ضعف بشري نتوق فيها إلى معجزة , إلى يد تربت على كتفنا وتقول : (( كفى , لقد انتهى كل شيء )) , ولكن , حتى في هذا الخذلان الظاهري للصبر, قد نجد فيه حكمة خفية , فربما يكون الهدف من هذا الشعور هو أن نتعلم الاعتماد على قوتنا الداخلية بشكل أكبر , ربما يريد منا القدر أن نكتشف في داخلنا مخزونًا من الصلابة لم نكن نعلم بوجوده , ربما يكون الصبر الحقيقي ليس في انتظار الفرج السلبي , بل في الاستمرار في المحاولة , والبحث عن حلول , وعدم الاستسلام لليأس , حتى وإن بدا الطريق طويلًا ومظلمًا , في نهاية المطاف , يبقى بيت شوقي هذا تذكيرًا بأنه حتى أعظم الفضائل قد تبدو غائبة في أحلك اللحظات , ولكنه أيضًا دعوة مبطنة إلى البحث عن القوة في داخلنا , وتفعيل قدرتنا على التحمل الذاتي , فربما يكون الصبر الحقيقي هو الصبر على غياب الصبر الظاهري , والاستمرار في المسير رغم كل الصعاب.
ماذا يعني الصبر؟ يعني أن تنظر إلى الشوكة وترى فيها وردة , أن تنظر إلى الليل وترى فيه الفجر , أما نفاذ الصبر فيعني أن تكون قصير النظر إلى الحد الذي لا تستطيع فيه رؤية النتيجة , إن الصوفية عشاق الله لا يفقدون الصبر , لأنهم يعلمون بأن الوقت ضروري كي يصبح الهلال بدراً , وأن علامة العاقل : الصبر عند المحنة , والتواضع عند السعة , والأخذ بالأحوط , ويقول ابن دارج القسطلي : (( ما أحسن الصبر فيما يحسن الجزع وأوجد اليأس ما قد أعدم الطمع , وللمنايا سهام غير طائشة وذو النهى بجميل الصبر مدرع , فإن خلت للأسى في شجوها سنن فطالما أحمدت في كظمها البدع )) , وقال عنترة بن شداد العبسى يذكر حربا كان فيها :(( فصَبَرْتُ عارفةً لذلك حُـرةً ترسو إذا نفسُ الجبانِ تَطَلَّعُ )) .