قصة الحضارة (205):  آمن زنوفانيز بإله واحد

قصة الحضارة (205):  آمن زنوفانيز بإله واحد

خاص: قراءة- سماح عادل

يستأنف الكتاب الحكي عن زنوفانيز في الحضارة اليونانية. وعن إيمانه بالإله الواحد. وذلك في الحلقة الخامسة بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

زنوفانيز ..

أول قوانين مكتوبة..

يحكي الكتاب عن مستعمرة أخرى سنت فيها قوانين مكتوبة: “في غرب كروتونا مكان لُكري القديمة، ويقول أرسطو إن هذه المستعمرة قد أسسها العبيد والزانون واللصوص الفارون من بلدة لكري في أرض اليونان القارية؛ ولكن لعل الذي أنطق أرسطو بهذا القول هو احتقار العالم القديم للجديد. وساد بين المستعمرين الاضطراب الناشئ من أصلهم الأول، فلجأوا إلى مهبط الوحي في دلفي يطلبون النصيحة فقيل لهم إن عليهم أن يسنوا لأنفسهم قوانين. وربما كان زلوكوس هو الذي أنطق الوحي بما نطق به، لأنه وضع للكري في عام 664 قوانين قال إن أثينة أملتها عليه في المنام.

وكانت هذه أول قوانين مكتوبة في بلاد اليونان كلها، وإن لم تكن أولى القوانين التي هبطت من عند الآلهة. وبلغ من حب اللكريين إياها أن حكموا على كل من يريد أن يقترح قانونا جديدا أن يتكلم وفي جيده حبل، حتى إذا رفض اقتراحه شنق بأقل كلفة من الأموال العامة “.

رجيو..

وعن ميدينة رجيو يواصل الكتاب: “وبعد أن يطوف المسافر حول إصبع قدم إيطاليا ويتجه نحو الشمال، يصل إلى رجيو ، وكانت مدينة مزدهرة أسسها أهل مسينا حوالي عام 730 ق.م وسموها رجيون وعرفها الرومان باسم رجيوم، فإذا اجتاز مضيق مسينا  ولعله هو الذي سمته الأوديسة “سلا وكربديس”  وصل إلى المكان الذي وقف فيه لوس”.

زنوفانيز..

ويضيف الكتاب: “ثم جاء بعدئذ إلى هيلي القديمة وهي فليا الرومانية، المعروفة في التاريخ باسم إليا لأن أفلاطون كتبها بهذه الصورة، ولأن فلاسفتها وحدهم هم الذين بقي ذكرهم. وهنا جاء زنوفانيز الكلوفوني حوالي 510 وأنشأ المدرسة الإليائية.

وكان ذا شخصية فذة لا تقل في ذلك عن عدوه فيثاغورس المحبوب من أهل بلده. ذلك أنه كان جم النشاط لا يكل من العمل، مبتكراً لا يهاب الابتداع، ظل ستة وسبعين عاما  على حد قوله هو نفسه يطوف “في أرض هيلاس من أقصاها إلى أقصاها” يجمع منها مشاهداته ويخلق لنفسه فيها أعداء أينما حل. وكان يكتب قصائد فلسفية ويتلوها على الناس، ويندد بهومر ويعيد عليه سفاهته وعدم تقواه، ويسخر من الخرافات؛ وقد أنشأ ميناء في إليا وأتم من العمر قرنا كاملا قبل أن يموت.

ومن أقواله أن هومر وهزيود “يعزوان إلى الآلهة كل الأعمال التي تحط من قدر الآدميين ويجللهم بالعار كالتلصص، والزنا والغش”. ولكنه هو لم يبلغ شأوا بعيدا في التقى والصلاح كما يدل على ذلك قوله:

“لم يوجد في العالم كله، ولن يوجد فيه، رجل ذو علم أكيد عن الآلهة. فالآدميون يتصورون أن الآلهة يولدون، ويلبسون الثياب، وأن لهم أصواتا وصورا كأصوات الآدميين وصورهم. ولو كان للثيران والآساد أيد مثلنا، وكان في وسعها أن ترسم وتصنع صورا كما يفعل الآدميون، لرسمت لآلهتها صورا وصنعت لها تماثيل على صورتها هي؛ ولو استطاعت الخيل لصورت آلهتها في صورتها، ولصورت الثيران آلهتها في صورة الثيران. والتراقيون يصورون آلهتهم زرق العيون حمر الشعرألا إن ثمة إلها واحدا يعلو على الآلهة والبشر؛ لا يشبه الآدميين في صورته ولا في عقله. فهو كله يرى، وكله يفكر، وكله يسمع. وهو يسيطر من نصب على الأشياء كلها بقوة عقله”.

التوحيد..

ويتابع الكتاب عن مناداته بالتوحيد: “ويقول ديوجنيز ليرتس إن زنوفانيز قد وحد بين هذا الإله والكون. وكان هذا الفيلسوف يعلم الناس أن الأشياء كلها، بل والناس أيضا، مخلوقون من الطين والماء حسب قوانين طبيعية، وإن الماء كان في يوم من الأيام يغطي الأرض بأجمعها لأنا نرى في الحفريات البحرية في الأرض بعيدة عن شواطئ البحار وعلى رؤوس الجبال، وأكبر الظن أن الماء سيغطي الأرض كلها يوما ما في المستقبل. بيد أن كل ما يحدث في التاريخ من تغير، وكل ما يحدث في الأشياء من فرقة وانقسام، ليس إلا ظواهر سطحية، وأن من تحت هذا الرخام ومن وراء ذلك الاختلاف في الصور والأشكال وحدة لا تتبدل أبدا هي حقيقة العلم الباطنة الداخلية.

ومن هذه البداية سار “برمنيدس” الإليائي تلميذ زنوفانيز إلى الفلسفة المثالية التي كان لها أكبر الأثر في تشكيل تفكير أفلاطون والأفلاطونيين طوال العصر القديم، وتفكير أوربا الذي دام إلى يومنا هذا”.

من إيطاليا إلى أسبانيا..

ويكمل الكتاب: “على بعد عشرين ميلا إلى شمال إليا كانت تقوم مدينة بسدونيا  بستم الرومانية  التي أنشأها مستعمرون من سيباريس لتكون آخر محطة برية إيطالية لتجارة ميليتس. وفي وسع الإنسان أن يصل إليها اليوم بعد سفرة لطيفة من نابلي مخترقاً سالرنو ، وتظهر أمامه على حين غفلة، على جانب الطريق، وسط حقل مهجور، ثلاثة تماثيل، عظيمة حتى في عزلتها. فلقد سد النهر في هذا المكان مصبه بما يحمله من الغرين طوال القرون الماضية، فاستحال هذا الوادي الذي كان من قبل واديا صحيا طيبا مناقع ضارة بالصحة؛ وحتى الأقوام الذين يحرثون سفوح جبل فيزوف، والذين لا يبالون بما يصيبهم في سبيل ذلك من أذى، حتى هؤلاء قد فروا يائسين من هذه السهول الموبوءة بالملاريا. وقد أبقى الزمان على أجزاء من الجدران القديمة، وأبقى كذلك بحالة أجود من حالة هذه الجدران  وكأن العزلة كانت من أسباب هذا البقاءعلى الأضرحة التي شادها اليونان من حجر الجير المتوسط الصلابة، ولكنها كاملة لم تكد تنال منها يد الزمان شيئاً.

وقد أقام اليونان هذه الأضرحة لآلهة الحب والبحر  وأغلب الظن أن أقدم هذه المباني، وهو البناء الذي سُمي فيما بعد “الباسلكا”، كان هيكلا لبوسيدن. وقد شاده له الأقوام الذين يعتمدون في طعامهم على فاكهة البحر المتوسط وتجارته حوالي منتصف هذا القرن السادس العجيب، الذي خلق كل عظيم في الفن والأدب والفلسفة بين إيطاليا وشانتنج. وقد بقيت من هذا الهيكل أعمدته الداخلية والخارجية شاهدة على شغف اليونان بإقامة العمد. وأقام الجيل الذي تلاه هيكلا أصغر من هذا الهيكل شبيها به في بساطته وقوته الدوريتين. ونحن نسميه “هيكل سيريز “.

الهياكل الثلاث..

وعن الهياكل وتقديسها: “ولكنا لا نعرف أي الآلهة كان يشم رائحة قرابينه. وشاد جيل بعد هذا الجيل أيضاً؛ قبيل الحرب الفارسية أو بعدها؛ أعظم الهياكل الثلاثة وأحسنها تناسبا؛ وأكبر الظن أنه شيد لبوسيدن أيضا  وهو من أجدر الهياكل بهذا الإله لأن في وسع الإنسان أن يطل من أروقته على صفحة البحر الغدار الذي يغري المطل عليه بركوبه. وأينما ولى الإنسان وجهه في هذا الهيكل رأى عمدا: ففي الخارج رواق دوري قوي كامل البناء، وفي الداخل رواق من العمد ذو طابقين كان يحمل أعلاها فيما مضى سقفا. وذلك منظر من أعظم المناظر الإيطالية تأثيرا في النفس.

ولا يكاد الإنسان يصدق أن هذا الهيكل الذي احتفظ بكيانه أحسن مما احتفظ به أي هيكل شاده الرومان، كان من عمل اليونان قبل ميلاد المسيح بخمسة قرون لا تكاد تنقص شيئا. وفي وسعنا أن نستدل منه على ما كان للأقوام الذين شادوا أمثال هذا المركز لحياتهم الدينية من حيوية وولع بالجمال، وما كانوا يستمتعون به من موارد ثراء ومن حسن ذوق. وفي وسعنا أن نتصور من بعد هذا صورة واضحة جلية لما كانت عليه المدن الكبرى مثل ميليتس، وساموس، وإفسوس، وكروتونا، وسيباريس وسرقوسة من أبهة وثراء.

وعلى مسافة قليلة من الموضع الذي تقوم عليه نابلي الحديثة، وإلى شماليها، أقام بعض المغامرين من كلوسيس، وإرتريا، وكيمي العوبية، وجرايا، حوالي عام 750 ثغر كومية أقدم المدائن اليونانية في غرب بلادهم، وسرعان ما أثرت كومية من استيرادها غلات بلاد اليونان الشرقية وبيعها في أواسط إيطاليا، وأعانها ذلك على استعمار جيوم والسيطرة عليها، كما سيطرت على مضيق مسينا وحرمت عبوره على سفن المدائن التي لم تعقد معها حلفا تجاريا أو سمحت لها بالمرور بعد أداء رسوم باهظة فرضتها عليها. وانتشر الكوميون جنوبا وأسسوا دسيآركيا وهي التي أصبحت فيما بعد ثغر بتيولي (بتسيولي) الروماني – ونيبوليس أو المدينة الجديدة وهي مدينة نابلي الحالية. ومن هذه المستعمرات انتقلت الأفكار اليونانية كما انتقلت المتاجر اليونانية إلى مدينة رومة الناشئة التي لم يكن لها وقتئذ شأن كبير بين المدن، كما انتقلت شمالا إلى إتروريا.واختار الرومان من كومية عدداً من الآلهة اليونانية  وبخاصة أبلو، وهرقليز، وابتاعوا الملفات التي تنبأت فيها سيبيل الكومية  كاهنة أبلو العجوز  بمستقبل رومة بأكثر مما تستحقه من الثمن”.

الفوقين..

وقبل أوائل القرن السادس بقليل نزل فوقيو أيونيا على سواحل فرنسا الجنوبية وأسسوا مساليا (مرسيليا)، ونقلوا غلات بلاد اليونان في نهر الرون وروافده حتى أرليس ونميز. واتخذوا من الأهلين أصدقاء وأزواجا، وأدخلوا زراعة الزيتون والكروم هدية منهم إلى فرنسا، كما أدخلوا الحضارة اليونانية إلى غالة الجنوبية، ونشروها بين ربوعنا إلى حد يسر لرومة فيما بعد أن تنشر فيها هي الأخرى في أيام قيصر حضارتها الوثيقة الصلة بالحضارة اليونانية. وأسس الفوقيون في اتجاه الشرق على طول الساحل مدن أنتبوليس (أنثيب الحديثة)، ونيسية (نيس الحالية) ومنوكوس (موناكو). أما في الغرب فقد وصلوا إلى أسبانيا وأسسوا مدينة رودية (ورساس) وإمبوريوم (أمبورياس) وهمروسكوبيوم وميناكا بالقرب من مالقة ؛ وأثرى اليونان في أسبانيا وقتاً ما باستغلالهم مناجم الفضة في تارتسوس؛ ولكن القرطاجيين والإتروريين تألبوا عليهم في عام 535 ودمروا الأسطول الفوقي، ومن ذلك الوقت أخذت قوة اليونان في غرب البحر المتوسط تتضاءل ولم تقم لهم فيه بعدئذ قائمة”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة