المسلسلات العراقية القصيرة في رمضان … تطور فني أم إفلاس درامي؟

المسلسلات العراقية القصيرة في رمضان … تطور فني أم إفلاس درامي؟

شهدت الدراما العراقية في السنوات الأخيرة تحوّلاً لافتاً، خاصة في شكل الأعمال الرمضانية التي باتت تميل إلى القِصر، حيث لا يتجاوز عدد حلقاتها 15 إلى 20 حلقة، بخلاف العرف الرمضاني الراسخ الذي اعتمد لعقود على 30 حلقة، توازي عدد أيام الشهر الفضيل. هذا التغيير لم يأتِ من فراغ، بل أثار تساؤلات عدّة حول دوافعه: هل نحن أمام تطور طبيعي نابع من فهم جديد لاحتياجات المشاهد؟ أم أن الظاهرة تخفي وراءها أزمة أعمق في البنية الفنية والفكرية لصناعة الدراما في العراق؟
من أبرز ما يلفت النظر هو التأثر بالمنصات الرقمية العالمية مثل “نتفليكس” و”أمازون برايم”، التي غيّرت قواعد اللعبة، وقدّمت أعمالاً قصيرة ومكثفة حققت جماهيرية واسعة. هذه المنصات شجعت على نمط جديد في الاستهلاك البصري يقوم على السرعة، والكثافة، والابتعاد عن الإطالة غير المبررة. وانتقلت هذه الموضة إلى العالم العربي، فبدأنا نرى أعمالاً درامية تتراوح بين 8 إلى 15 حلقة، لكنها غالباً ما تُعرض خارج موسم رمضان، الذي بقي في الغالب ميداناً للمسلسلات الطويلة.
في العراق، يبدو أن هذا التغيير تم استنساخه دون مراعاة السياق الثقافي أو الفني المحلي. فالمسلسلات الرمضانية العراقية باتت قصيرة، لكن ليس بدافع التجديد الفني أو الرغبة في تقديم محتوى مكثف، بل أحياناً نتيجة ظروف إنتاجية صعبة، أو فقر في الأفكار، أو ضعف في كتابة النصوص. أصبحت بعض المسلسلات تُنتج لتأدية الواجب، وتُعرض لتملأ وقت البث، ثم تُنسى بمجرد انتهاء الشهر. لم تعد تُكتب لتبقى، بل لتُستهلك كأي سلعة موسمية.
ورغم قِصر الحلقات، فإن عدداً من هذه الأعمال لا ينجح حتى في تقديم حبكة متماسكة أو شخصيات ناضجة درامياً، ما يعكس أن القصور لا يكمن في عدد الحلقات، بل في طريقة الإنتاج والرؤية الإبداعية.
هذا التحوّل أثّر أيضاً على جودة المحتوى. فبدلاً من أن يكون رمضان موسم المنافسة الدرامية الجادة كما كان في العقود الماضية، أصبح موسماً للاستهلاك السريع، تغيب عنه الأعمال ذات العمق، وتُستبدل بأعمال سطحية لا تُخلَّد في ذاكرة المشاهد. من يراجع أرشيف الدراما العراقية والعربية، سيجد أعمالاً رمضانية لا تزال حاضرة في الذاكرة حتى اليوم، مثل “الذئب وعيون المدينة”، “بيت الطين”، و”الحاج متولي” عربياً، وغيرها من الأعمال التي اقترنت برمضان وبقيت جزءاً من الثقافة الشعبية.
الجمهور العراقي، كما العربي، تطوّر وازدادت توقعاته. لم يعد يقبل بالإطالة المجانية أو الحشو، لكنه أيضاً لا يرضى بمحتوى ضعيف أو سطحي تحت مسمى “الاختزال”. المفارقة أن كثيراً من المسلسلات القصيرة تفشل حتى في تقديم حبكة متماسكة، فتبدو مبتورة وتفتقر إلى النضج الفني أو البناء السردي المحكم، ما يُشير إلى أن المشكلة أعمق من مجرد عدد الحلقات.
الدراما ليست مجرد منتج يُستهلك بسرعة، بل هي ذاكرة جمعية، وسجل فني وثقافي للأجيال. وإذا استمر هذا النهج في إنتاج مسلسلات موسمية للاستهلاك اللحظي، فسنفقد تدريجياً قيمة الدراما كأداة للوعي والتغيير والتأريخ الاجتماعي.
الخلاصة أن القِصر في عدد الحلقات ليس عيباً بحد ذاته، بل قد يكون خياراً فنياً ناجحاً إذا تم توظيفه بشكل سليم. لكن المشكلة في الدراما العراقية الرمضانية تكمن في أنها فقدت روح المنافسة، وأصبحت خاضعة لحسابات تجارية بحتة، على حساب الجودة والذاكرة الفنية. ما نحتاجه اليوم ليس فقط تطوير أدوات الإنتاج، بل إعادة بناء المنظومة الدرامية ككل، وخلق بيئة تحتضن الكتّاب والمخرجين، وتمنح الفرصة للأفكار الجريئة والمتماسكة، لتقديم محتوى يليق بالجمهور، ويستحق أن يُحفظ في أرشيف الفن العراقي والعربي.