انتماء لا يُباع… ومقاطعة لا تُدان: قراءة في العقل العراقي الرافض

انتماء لا يُباع… ومقاطعة لا تُدان: قراءة في العقل العراقي الرافض

أن تكون عراقيًا، ليس مجرد انتماء جغرافي أو ورقة تعريف، بل هو موقف دائم، وبوصلة لا تحيد عن الوطن. أن ترى في العراق معيار الصدق والولاء، وفي مصلحته حجر الزاوية لكل موقف تتخذه.
لكن حين يصبح الوطن ساحة مفتوحة لتجارب الخارج، ومرتهنًا لقرارات تُصاغ في غرف لا علاقة لها بالشعب، يصبح الانتماء مسؤولية، لا شعورًا.

هذا المقال محاولة لفهم اللحظة العراقية الراهنة من زاوية الانتماء والوعي والمقاومة، من خلال تسليط الضوء على هيمنة الخارج، وخداع الداخل، وتواطؤ القوانين مع الفساد، والموقف الشعبي العميق الذي اختار الرفض الصامت على المشاركة المزيفة.

تُظهر التجربة السياسية العراقية بعد 2003 ملامح ما يُعرف في علم السياسة بـ”الأنظمة الكليبتوقراطية”، حيث تهيمن شبكات مصالح حزبية على موارد الدولة ومؤسساتها، تحت غطاء ديمقراطي شكلي.
هذه البنية لا تسمح بتداول حقيقي للسلطة، ولا بتعبير نزيه عن الإرادة الشعبية، خصوصًا حين تكون القوانين الانتخابية مصممة لضمان إعادة إنتاج القوى نفسها.

إن امتناع النخبة الواعية عن المشاركة في الانتخابات ضمن هذا السياق لا يُعد انسحابًا سلبيًا، بل هو في جوهره فعل مقاومة مدنية، ورفض لمنظومة تشريعية تُصادر صوت الناخب وتُحوّله إلى أداة لترسيخ الأمر الواقع.

فالديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل منظومة عدالة متكاملة، تبدأ من القانون الذي تُبنى عليه العملية برمّتها. وكلما اختلّ هذا القانون، تحوّلت الانتخابات إلى أداة شرعنة للفساد بدل أن تكون وسيلة لمحاسبته.
أن تنتمي للعراق، يعني أن تتجه بوصلتك نحوه دائمًا، في كل مواقفك وخياراتك.
أن يكون ولاؤك الأول له، وأن تقيس احترامك للآخرين بقدر احترامهم لوطنك.
أن ترفض التخلي عن انتمائك مهما كانت الإغراءات، وألّا تجامل على حساب مصلحة بلدك، أو تساوم على كرامته.

أن تدافع عنه بما تملك، بالكلمة أو بالموقف أو بالفعل، وتوظف كل ما لديك من إمكانات لأجله.
فلا صديق دائم، ولا عدو دائم، بل يُقاس كل شيء عندك بمسطرة العراق: من يقف معه، هو معك… ومن يُسيء إليه، يقف تلقائيًا على الجانب الآخر منك.

على المسطرة الوطنية، يُمكن القول إن الولايات المتحدة والغرب يقفون اليوم في خانة الخصومة الواضحة مع العراق. ليس فقط بسبب سياساتهم القديمة في الاحتلال والتدخل، بل بسبب استمرار نفوذهم غير المباشر داخل الدولة والمجتمع.

من هنا، فإن الوقوف بوجه هذه الهيمنة، ومقاومة أدواتها، يُعدّ واجبًا وطنيًا لا يقتصر على الجانب المسلح، بل يمتد ليشمل كل وسائل التعبير، وعلى رأسها الكلمة الحرةالتي تبقى واحدة من أرقى أشكال المقاومة وأكثرها فاعلية.

ندرك تمامًا أن أمريكا وحلفاءها لم يغادروا العراق فعليًا، بل زرعوا أذرعًا ناعمة وذُيولًا إعلامية في الداخل والخارج، تُحاول تشويه الهوية الوطنية، والتشكيك في الانتماء، وتزييف الوعي عبر منصات التواصل والإعلام. يظهرون بمظهر الناصحين، يتحدّثون بلغة التمدّن والانفتاح، بينما يرقصون على أنغام المصالح الغربية.

لكن خلف هذا القناع، تقف منظومة ضغط ناعمة وخطيرة، تسعى لتفكيك ما تبقى من العراق ككيان موحد. وهنا تأتي أهمية أن يكون لكل مواطن موقف، ولكل قلم وطني كلمة ترفع راية الوعي في وجه الغزو الثقافي والسياسي المموّه.

في مواجهة المشاريع الخارجية، يُفترض أن تكون النخب الوطنية خط الدفاع الأول، لكن الواقع في العراق كشف عن فئة استسلمت تمامًا لإرادة الخارج، بل تجاوزت ذلك إلى لعب أدوار وظيفية في ترويج الأجندات الغربية داخل البلاد.

هذه الفئة لم تكتفِ بالصمت، بل مارست التبرير والتزييف والتلميع، وبدأت باختلاق أعداء وهميين للشعب العراقي، في محاولة لصرف النظر عن العدو الحقيقي، وتنفيذًا مباشرًا أو غير مباشر لتعليمات صادرة من دوائر التأثير في واشنطن والعواصم الغربية.

يتبدّلون في المواقف كما تتبدّل الحرباء في لونها، يسوّقون الفوضى تحت شعار الحداثة، ويُشرعنون التبعية باعتبارها “انفتاحًا”. حتى أن بعض الأنظمة العربية، التي لحقت بهذا الركب منذ سنوات، باتت شريكة في هندسة سردية جديدة تهدف إلى عزل العراق عن عمقه العربي الحقيقي، وتقديمه كطرف متخلف في مقابل “التحضّر الأمريكي” الذي لا يملك من التحضر إلا شكله.

ما يُثير الأسى أن هؤلاء لا يدركون أنهم مجرد أدوات عابرة، لا يُنظر إليهم في الخارج باحترام، بل باستعلاء. فـ”من يبيع وطنه”، لا يُنتظر منه أن يُمنح كرامة، لا من العدو، ولا من التاريخ.

يصعب تصديق أن من تورّط في الفساد، وتماهى معه حتى ذابت شخصيته في باطله، يمكن أن يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى نصيرٍ للحق ومدافعٍ عن المظلومين. فالفاقد لاحترامه لذاته، والذي عاش على حساب آلام شعبه، لا يُمكن أن يصبح فجأة صوتًا صادقًا، مهما ارتفعت نبرته، أو تزيّنت خطبه بشعارات العدالة.

هؤلاء لا يملكون الضمير الذي يؤهّلهم للتعاطف مع شعبهم، فكيف ننتظر منهم أن يتحرّكوا من أجل آلام الشعوب الأخرى؟ ما يمارسونه لا يتجاوز المزايدة العلنية، بينما في الكواليس تُدار قصص مختلفة تمامًا، بعيدة كل البعد عن المبادئ.

ومن المفيد أن نُنشّط ذاكرتنا الجمعية، ونسترجع تلك اللحظات التي نهض فيها الشعب العراقي ضد منظومة الفساد، حيث سقطت أقنعة كثيرة، وظهرت ملامح الارتباط بالخارج والتربّح على حساب المأساة الوطنية. إنها الذاكرة التي لا تزال حيّة، وتعرف جيدًا الفرق بين من يقاتل من أجل الوطن، ومن يقتات على أنينه.

في تشرين الأول/أكتوبر 2019، شهد العراق واحدة من أكبر الانتفاضات الشعبية في تاريخه الحديث. انطلقت شرارتها من عمق المعاناة، وكانت نقية كنقاء الماء الزلال، تعكس وعيًا جمعيًا رافضًا لمنظومة الفساد، ولسنوات من الفشل المتراكم في إدارة الدولة.

طالب العراقيون بحقوقهم الأساسية، وبقانون انتخابي عادل يضمن لهم صوتًا حرًا لا يُصادر باسم الطائفية أو الصفقات. ورفضوا بوضوح النظام الطائفي القائم، وطالبوا بإسقاطه أو إصلاحه من جذوره. ومع تزايد الزخم الشعبي، تفاعلت المرجعية الدينية العليا مع صوت الشارع، ووضعت شروطًا واضحة لأي قانون انتخابي يليق بإرادة الأمة.

تحت ضغط الشارع، استقال رئيس الوزراء حينها، لكن الأحزاب الحاكمة، وبدل أن تُراجع نفسها، بدأت بمناورات سياسية لمحاصرة الانتفاضة، وركبت موجتها ثم عملت على تحريفها عن مسارها، وتشويه سمعتها في الإعلام والفضاء العام. ومع الوقت، بدأ الزخم يتراجع، وانسحب الشعب الطيب من الميدان، تاركًا خلفه من ظلّوا أدوات للأحزاب وأذرعها.

لكن الثمن كان فادحًا: أكثر من ألف شهيد، ومئات الجرحى، من خيرة شباب العراق. ورغم أن غالبية الساسة آنذاك اعترفوا – ولو شكليًا – بفشلهم في إدارة الدولة، وأعلنوا تعاطفهم مع مطالب الشارع، إلا أن الفعل لم يتبع القول، وبقيت المنظومة كما هي، تنتظر فرصة أخرى لإعادة إنتاج ذاتها.

لكن كما يُقال: “إذا فارقك الذئب، لا ترى منه إلا الغبار”، وهذا ما حصل فعليًا بعد أن تراجعت الأحزاب عن كل تعهداتها، وضربت بمطالب الشعب عرض الحائط، بما فيها التوصيات الصريحة التي صدرت عن المرجعية الدينية العليا.

فبدلًا من أن يُبنى قانون انتخابي جديد يُترجم مطالب الناس، عادت الأحزاب إلى اعتماد قانونها القديم، بل بصيغة أكثر تحيّزًا وتحكّمًا من ذي قبل. واستُعيدت آليات المحاصصة الطائفية بشكل أكثر وقاحة، بما يكشف أن الإرادة الشعبية لم تكن يومًا ضمن أولويات الطبقة السياسية.

لقد وصل الأمر إلى حدّ أن المرجعية أغلقت أبوابها تمامًا بوجه الأحزاب، وألغت الخطبة السياسية الثانية من صلاة الجمعة، تعبيرًا عن خيبة الأمل وانعدام الأفق. فالمرجعية كانت قد وضعت ستة شروط أساسية لأي قانون انتخابي نزيه، وهي شروط تم تجاهلها بالكامل، ولم يُلبَّ منها شرط واحد.

وهكذا، عاد النظام إلى الدوران في حلقة مفرغة، لا تعترف بالمحاسبة، ولا تستجيب للتغيير، فيما بقيت ذاكرة تشرين حيّة، تُذكّر بأن الشعب، حين قرر النهوض، لم يكن عابرًا… بل كان واضحًا في أهدافه، حقيقيًا في ألمه، وواقعيًا في طموحه.

بعد كل هذا، يندهش البعض حين يتساءلون: لماذا لا يتحرّك الشعب ضد الفساد؟ والجواب ببساطة أن الشعب قد تحرك، ورفض الأمر الواقع، لكنه لا يُريد أن يكون أداة بيد النظام لإعادة إنتاج الفساد نفسه من جديد.

فالشعب العراقي لم يعُد يرى جدوى من المشاركة في انتخابات تُدار بقوانين تُكرّس هيمنة الأحزاب، ولا تضمن للناخب قيمة صوته ولا أثره. إن القانون الانتخابي الحالي لا يسمح بتغيير حقيقي، بل يُعيد تدوير السلطة نفسها، لأن الصوت الانتخابي فيه متحرّك داخل القوائم، مما يعني أن من تنتخبه قد لا يصلك، ومن يصل ليس بالضرورة ممثلك الحقيقي.

والأخطر أن القانون يُفرغ التمثيل الجغرافي من مضمونه، فيُمنح صوتك لشخص من خارج منطقتك، مما يُعمّق فجوة الثقة، ويُكرّس انعدام التمثيل المحلي الحقيقي.

لذلك، فإن الحكمة تقتضي ألا نشارك في تكريس منظومة مريضة بقانون مختل. إن أي دعوة للمشاركة دون تغيير القانون أولًا، هي دعوة لشرعنة الفساد لا لمقاومته.

وقد قال ألبرت أينشتاين قولًا ينطبق تمامًا على حالتنا:

من الغباء أن نعيد التجربة نفسها بالمدخلات نفسها ونتوقع نتائج مختلفة.”

فإذا بقي قانون الانتخابات على حاله، فلن تختلف النتائج مهما تغيّرت الوجوه. وإن أردنا عراقًا جديدًا، فالخطوة الأولى تبدأ من تغيير القاعدة القانونية التي يُبنى عليها النظام.

إن المشاركة في انتخابات تُبنى على قانون غير عادل، لا تعني فقط اختيار مرشح من قائمة ما، بل هي – بحكم الواقعقبول ضمني بشرعية الإطار القانوني الذي تُجرى فيه. فبغض النظر عن الشخص أو القائمة التي يُصوَّت لها، فإن مجرد سحب استمارة الاقتراع، حتى وإن كان لغرض إبطالها، يُحتسب مشاركة رسمية في العملية الانتخابية.

وهذا ما يجعل كثيرًا من النخب الواعية تُحجم عن الانخراط في هذه الدائرة المغلقة؛ إذ تُدرك أن النظام القائم لا يُمثّل نموذجًا للدولة الراسخة أو السيادة الحقيقية، بل يشبه – من حيث الشكل والممارسة – ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ”الدول الهشة” أو “الديمقراطيات الشكلية“.

لذلك، فإن من يُدرك عمق الأزمة، ويعي أن أصل المشكلة يكمن في البنية لا في الأشخاص، لا يمكن أن يُشارك في إعادة تدوير الفساد، حتى وإن بدا ذلك تحت لافتة “الواجب الوطني“.

أحدث المقالات

أحدث المقالات