“الديمقراطية” الأمريكية: خراب ممنهج تحت غطاء الانتخابات

“الديمقراطية” الأمريكية: خراب ممنهج تحت غطاء الانتخابات

من منظور تحليل سياسي متجرد، فإن ما مرّ به العراق منذ 2003 يمكن تصنيفه ضمن أنظمة الحكم الوظيفي المرتبطة بالإدارة الخارجية. تتجلى معالم هذا النظام في غياب الفاعلية التشريعية، وانحسار القرار التنفيذي داخل محاور المحاصصة، وتحويل العملية الانتخابية إلى أداة لشرعنة نفوذ القوى المسيطرة لا لاستعادة إرادة الناخب. إن ارتفاع نسبة المقاطعة الشعبية إلى ما يقارب 80% يكشف مستوى الرفض المجتمعي لهذا النموذج. في المقابل، لا تزال نُخب السلطة تقتات على صفقات “مذكرات التفاهم” الوهمية، التي لم تُترجم يومًا إلى مشاريع إنتاجية أو بنى تحتية حقيقية. مؤسسات الدولة تم تفريغها من مضمونها، وتحولت إلى واجهات حزبية، بينما تسللت المخابرات الإقليمية والدولية لتصبح فاعلًا سياسيًا غير مرئي يحدد الاتجاهات ويرسم الخرائط.

في خضمِ هذه التحولات العاصفة التي عصفت بالعراق بعد عام 2003، سُوّق مفهوم “الديمقراطية الأمريكية” بوصفه الخلاص السياسي والاقتصادي المرتقب، واعتُبرت الانتخابات الدورية مدخلًا لتحقيق السيادة والتنمية والاستقرار. غير أن ما جرى فعليًا خلال اثنين وعشرين عامًا يشي بعكس ذلك تمامًا. فما أُقيم في العراق لم يكن نظامًا ديمقراطيًا بمفهومه التشاركي ولا نموذجًا سياديًا بالمفهوم المتعارف عليه دوليًا، بل كان خرابًا ممنهجًا، مُغلّفًا بصناديق اقتراع ومذكرات تفاهم جوفاء، ومخرجات سياسية تدور في فلك الأحزاب والولاءات الخارجية، لا حول الشعب ولا مصالحه.

فبعد أكثر من عقدين على سقوط النظام السابق ودخول القوات الأمريكية إلى بغداد، يتّضح اليوم أن ما سُمّي بـ”المشروع الديمقراطي” في العراق لم يكن سوى أكذوبة كبرى، صيغت بعناية لتُسوّق كنجاحٍ أمريكي في الشرق الأوسط، بينما هي على أرض الواقع سلسلة متتالية من المسرحيات السياسية الفارغة.

لقد تحوّلت الانتخابات، التي كان يُفترض أن تعبّر عن إرادة الشعب، إلى مجرّد سباقات شكلية تُستخدم لمعرفة وزن الأحزاب في الشارع، أو بالأحرى وزنها لدى “الذيول”؛ وهم شريحة من المنتفعين والانتهازيين الذين يتنقلون بولائهم بين حزب وآخر وفقًا للمصلحة والمكسب. أما الشارع العراقي الحقيقي، فقد نأى بنفسه عن هذه اللعبة المُهينة، حتى بلغت نسب المقاطعة أكثر من 80%، وهي في تصاعد مستمر.

أما نتائج هذه العملية الهزيلة، فهي واضحة للعيان:

برلمان لا يُحلّ ولا يربط، أفراده مجرد بيادق يرددون ما يملى عليهم من قبل قياداتهم الحزبية.
وحكومة محاصصاتية عاجزة، لا وزن لها داخليًا أو خارجيًا، كل ما تتقنه هو السفر، توقيع مذكرات “تفاهم” لا تسمن ولا تغني من جوع.

حكومة تصريف الاعمال هذه والحكومات التي سبقتها وقعت عشرات المئات من مذكرات التفاهم مع دول العالم المختلفة والدول الاقليمية وبعثرت أو اهدرت ملايين الدولارات على سفراتها العبثية هذه وخسر العراق مليارات الدولارات، عقدين من الزمن وكل حكومة تأتي تحدثنا عن مذكرات تفاهم توقعها، حتى أصبح مصطلح مذكرات التفاهم يثير الغثيان عند الشعب بسبب بسيط هو عدم انعكاس مذكرة من هذه المذكرات على أرض الواقع، مذكرات التفاهم هذه ليس أكثر من مجرد هدر للمال العام ولثروات البلد وتعطيل التنمية لصالح دول أخرى دون مردودات إيجابية.

اما الوزارات فهي مجرد دكاكين حزبية مهمتها اجترار الاموال وتحويلها للحزب الذي نصبها
توزيع الأدوار في مسرحية الديمقراطية العراقية ليس ارتجالًا، بل هو عمل مُتقن تُشرف عليه أيادٍ خفية – أو ما يمكن تسميته بـ”المشرف العام”، تلك السفيرة السعيدة التي لا تُخطئ في ضبط الإيقاع. فالجميع يؤدي دوره بدقة مذهلة: الكل ينتقد الكل، الكل يتهم الكل، وكأنهم ليسوا شركاء في صناعة هذا الخراب.

البرلمان، وهو أبرز فصول هذه المهزلة، يصوّت على مشاريع مشبوهة ثم يخرج بعض أعضائه إلى وسائل الإعلام لتصوير أنفسهم كمعارضين شرسين لتلك المشاريع ذاتها. المشهد عبثي إلى درجة أن الجلسات تُعقد في الظلام الدامس، ليس مجازًا بل فعليًا، للتصويت على قوانين تصبّ في خدمة الامتيازات الشخصية: رفع رواتبهم، منحهم جوازات دبلوماسية لعائلاتهم مدى الحياة، تأمين سيارات حديثة، وتكريس حياة مترفة أقرب إلى البذخ، في بلد يغرق بالجوع والتهميش.

ومن لوازم سبك اللعبة السياسية القذرة، يُقدَّم لنا “الممثل البرلماني الغاضب” الذي لا يترك منبرًا إلا وصرخ فيه، مطالبًا بالإصلاح. وفي المقابل، يظهر “النائب الصامت”، الذي قرر الانسحاب النفسي وقَبِل بدور الذيل دون صوت. وهناك ثالث، يتعامل مع البرلمان كمحطة عبور، يَدخل من بوابة التصويت ويَخرج مباشرة من بوابة المطار، ليعود إلى حيث يشعر بالأمان بعيدًا عن مسؤولية شعب انتخبه – أو بالأحرى، لم ينتخبه أحد.

وبعد اثنين وعشرين عامًا من مهزلة الديمقراطية المستوردة، ما الذي تغيّر؟

لا يزال الجوع في عيون الفقراء، ولا تزال “زويطة” وأطفالها يبحثون في النفايات عن ما يسد الرمق. لا يزال الشيوخ وأصحاب الأمراض المزمنة يقفون على أبواب المستشفيات ينتظرون دواءً لا يأتي. ولا تزال “عائلة رحومي” تتناقل أحلام السكن كإرث ثقيل بين الأجيال.

لقد تراجع البلد على كل المستويات، وتوقفت عجلة التنمية تمامًا. بلد بلا مصانع، بلا بنية تحتية، بلا شبكة مواصلات حديثة. “الطائر الأخضر” – الخطوط الجوية العراقية – انكمش حتى بات رمزًا للتقوقع والانكماش. والسكك الحديد لا تزال تعيش على أمجاد “الزعيم” دون أي تطوير يُذكر.

القطاع الصحي، حدث ولا حرج، مأساة حية يومية. أما موانئ العراق، فقد تم تقاسم مراسيها بين “شعيط ومعيط”، وتحولت إلى ساحات لاستقبال نفايات العالم: لحوم فاسدة، أجهزة متهالكة، وبضائع تالفة.

وفي ظل كل ذلك، لا أحد يجرؤ على الحديث عن سيادة أو أمن، فالعراق ساحة مفتوحة لأجهزة المخابرات الإقليمية والدولية، تتصارع فيه بلا رقيب أو ضوابط.

هذا هو العراق بعد 22 عامًا من “الديمقراطية الأمريكيةنموذج حي لديمقراطية الاحتلال. فلا يُحدّثنّي أحد عن هذه الديمقراطية النتنة التي تصدّرها واشنطن إلى الدول التي تحتلها. العراق هو الشاهد الحي، والضحية المستمرة.

اثنان وعشرون عامًا كانت كافية لتظهر الصورة كاملة: لم تكن الديمقراطية الموعودة سوى أداة تهشيم ممنهجة للدولة العراقية. بلدٌ بلا مصانع، بلا سكك حديدية، بلا طيران مدني فاعل، بلا نظام صحي جدير بالحياة، وبلا مشروع وطني واحد يستحق الذكر. في المقابل، تنامت ثروات الأحزاب، واستُبيحت ثروات العراق، وعادت“زويطه وأولادها” يجمعون النفايات، فيما تنتظر “عائلة رحومي” بيتًا لا يأتي.

هذه ليست ديمقراطية… هذا احتلال ناعم غلّف الخراب بـ”صندوق اقتراع”، وسلّم العراق إلى المجهول.

أحدث المقالات

أحدث المقالات