القشرة المزيفة: تناقضات التنمية ورداءة الخدمات في العراق – إقليم كوردستان نموذجاً

القشرة المزيفة: تناقضات التنمية ورداءة الخدمات في العراق – إقليم كوردستان نموذجاً

رغم الشعارات المتكررة عن التحديث والنمو، يعيش العراق حالة من التناقض الصارخ بين الصورة التي تروج إعلامياً والواقع الذي يعيشه المواطن، ما يعرض كتحول عمراني أو إنجاز اقتصادي غالباً ما يخفي تحت سطحه أزمات هيكلية عميقة، أبرزها تدهور الخدمات الأساسية وغياب الرؤية التنموية الشاملة، النتيجة هي نموذج هش للتنمية، يهتم بالمظهر ويغفل جوهر البناء الحقيقي، أي الإنسان.

في مدن كوردستان، تتجلى هذه المفارقة بوضوح، في أربيل، ناطحات سحاب شاهقة تطل على شوارع تغمرها مياه الأمطار مع أول زخة، بسبب نظام صرف عاجز، في دهوك، مجمعات سكنية حديثة تقابلها أزمة مرورية خانقة وشوارع غير مهيأة، أما السليمانية، المعروفة بـ”مدينة الثقافة”، فتعيش وسط بنية تحتية متهالكة لا تليق بتاريخها ولا بطموحات أهلها.

هذا التناقض ليس صدفة، بل نتيجة أولويات منحرفة،المشاريع البراقة تستهلك الموارد، بينما تهمل الخدمات الحيوية التي تبنى عليها حياة الناس، في القطاع الصحي مثلاً، لم تنشئ حكومات كوردستان المتعاقبة أي مستشفى حكومي جديد ومتكامل، كل ما حدث هو ترميم مستشفيات قديمة، معظمها شيد في عهد صدام حسين، مع توسعات محدودة لا ترقى إلى مستوى الحاجة، اليوم، يقف المواطن الكوردستاني أمام واقع مرير: لا وجود لبنية صحية تليق بمرحلة ما بعد الاستبداد، ولا بمفاهيم “الحرية والاستقلال” التي طالما رفعت شعاراتها، فحلبجة، المدينة التي عانت من القصف الكيميائي، والمحافظة الوليدة لما بعد التحرير، لا تزال تنتظر مستشفى يليق بضحاياها، في وقت تبنى في غالبية محافظات الاقليم مجمعات تسكنية واخرى تجارية فاخرة على مقربة من عمراكز صحية متداعيةلاتمتلك ادنى مقومات حاجيات المواطن في حين هي نفسها تكاد تتحول الى ما يشبه بالمستشفيات الخاصة بسبب انتشار شائعات تدعي باعطاء مختبراتها وبعض مرافقها الى القطاع الخاص، هذه المفارقة ليست فقط فشلاً إدارياً، بل إهانة لذاكرة كوردستان وتاريخها.

في التعليم، تتكرر المأساة، المدارس الحكومية تحولت إلى مبان إسمنتية مكتظة، بلا مختبرات، بلا مرافق، وبلا خطة إصلاح حقيقية، وزارة التربية ما زالت تدير الملف بعقلية إغاثية، معتمدة على منظمات دولية انسحبت، تاركة وراءها فراغاً لم يملأ بعد تارة، وتارة على بعض المستثمرين والاغنياء من اجل احداث تغيرات بسيطة او لنقل ترميمات بسيطة، التعليم العالي ليس أفضل حالاً، التركيز على الشكليات الرقمية من اجل ادخال الجامعات ضمن منصات التحديث العالمية رقمياً دون اي اهتمام بالجوهر التعليمي للطلاب الذين يتخرجون معظهم لايعلم من اختصاصه إلا القشرة، ومع التعليم والتربية بقية الوزارات التي تفتقر لاستراتيجيات طويلة الأمد، وتعمل بلا رؤية حقيقية، وخطط مستقبلية مستديمة.

المشكلة لا تقف عند حد ضعف الخدمات، بل تتعمق مع التحولات الطبقية الحادة التي تشهدها المدن الكوردستانية،المجمعات السكنية المغلقة والقرى الحديثة أصبحت حكراًعلى النخب الاقتصادية وبعض المستثمرين من خارج الإقليم، الأخطر أن بعض هؤلاء المستثمرين أو لنقل الاغنياء يحملون أجندات سياسية واضحة، يسعون من خلالها إلى فرض أمر واقع مستقبلي عبر السيطرة على الأراضي والعقارات، وهو ما يرقى إلى شكل من أشكال “الاستيطان المقنع”؛ هؤلاء لا يساهمون في البناء، بل في خلق توازنات جديدة قد تهدد الهوية الكوردية – الديموغرافية والسياسية للإقليم، هذه المسألة تتطلب وقفة جادة، لأنها لم تعد مجرد قضية استثمار، بل مسألة سيادة وكرامة وطنية.

في ظل هذا المشهد، تتفاقم أزمة الرواتب المرتبطة بالحكومة الاتحادية، ما يزيد الضغط على الموظف العادي،ارتفاع الأسعار، الضرائب المتعددة، ورداءة الخدمات تدفع الناس نحو السكن العشوائي، بعيداً عن واجهات التنمية التي تُبنى أساساً للنخبة، الثقافة الاستهلاكية التي تروج لها المشاريع العقارية، ومظاهر التمد الزائف، لا تعكس واقعاً اقتصادياً صحياً، بل تضخمه وتعمق اختلالاته.

النموذج التنموي الحالي في كوردستان لا يصنع مستقبلاً، بل يكرس تفاوتاً، ويعيد إنتاج أزمات الماضي بحلة جديدة، الموارد تستنزف في بناء الأبراج والمولات، بينما الصحة والتعليم والإسكان تنهار، لا تنمية بدون إنسان، ولا حرية بدون كرامة معيشية؛ التنمية الحقيقية لا تقاس بعدد الأبراج أو النوادي الليلية، بل بجودة المدارس والمستشفيات، بشبكات النقل، وبالخدمات التي تمكن المواطن من العيش بكرامة، أمام الإقليم خياران: إما الاستمرار في نموذج يستهلك ذاته ويهمش الإنسان، أو تبني رؤية جذرية تضع المواطن الكوردستاني في صلب الأولويات، المستقبل يبنى الآن، والقرار لا يحتمل مزيداً من التأجيل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات