23 نوفمبر، 2024 4:55 ص
Search
Close this search box.

مع مذكرات المهنيين …

مع مذكرات المهنيين …

-1-
من أمثال العرب قولهم :
(كلُّ فتاةٍ بأبيها معجبة)
وقد وقفتُ مؤخراً على محاولةٍ يُريد فيها أحدُهم ان يقول :
(إنّه معجب بأُمُّهِ ) ،
وهي منطلق لمَثَلٍ جديد يقول :
(كلُّ فتى بأُمّهِ معجب)
على نحوٍ يتقابل به  المَثَلان ، ويستوي فيه الأبوان ..!!
-2-
جاء ذلك في كتاب اسمه (كلُّ شيء هادئ في العيادة)
ان الكتاب عبارة عن مذكرات الطبيب سلمان درويش جاء فيه ص115 :
(أن أحد الأقارب اشترى من المزايدات في دائرة الكمرك في بغداد ، صندوقا يحتوي على أوراق القمار بصورة منفرطة وغير معبأ بعلبها الخاصة بها، فجاء بالصندوق الى دارنا، وكانت قريبة من مَخْزَنِهِ ورجا مُساعَدَتَهُ لصفِّ الأوراق ، وإعادتها للعُلب بصورة مضبوطة .
وبعد اتمام العملية التي استغرقت النهار كله ، قالت له والدتُه وكانت بين الحاضرين :
عسى أنْ يسهل الباري فتبيع بضاعتك بسرعة .
وسمعت والدتي دعاءها فقالت معاتبة :
لقد تخرّج ولدي سلمان طبيباً، فدعوتُ له بالنجاح في التخفيف عن آلام العباد وسرعة شفائهم ، ولم يخطر ببالي أنْ ابتهل اليه تعالى لزيادة رزقه ، والثراء من مهنَتِهِ لأنني أعلمُ علم اليقين ان ازدياد رزقه معناه كثرةُ المرضى وازدياد آلام الناس ،
وأنتِ تريدين ان يسهل الله على وَلَدكِ فيبيع أوراق القمار بسرعة !!
ولكنْ هو قدّرتِ عدد البيوت التي قد تخرب بسبب لعب القمار ؟ “
-3-
تسجيل كلام المرأتين – أمّ المشتري لأوراق القمار وأمّ صاحب المذكرات – ينطوي على جملة فوائد :
منها ابراز الفوارق في المستويات الذهنية والأخلاقية للنساء .
وهنا تتفوق ” أم الطبيب ” على صاحبتها يقيناً ، لأنها رغم حُبّها الكبير لولدها الطبيب ، لا تريد له ان تكون أرباحُه على حساب آلام الناس وأمراضهم ، بينما لم يخطر على بال (أم مشتري ورق القمار) مصلحة الناس من قريب أو بعيد .
ان الشيء الوحيد الذي كان يُراودها هو تمنيها رواج بضاعة ابنها ، وليكن بعدد ذلك ما يكون ..!!
ومنها :
إنّ صاحب المذكرات أراد ان يفخر بأمّه ، ويذكر لها بعض خصائصها المتميّزة، وهذا برٌّ منه بأمّه، وما انطوت عليه من سمات وصفات …
ومنها
إنّ اشتمال الكتاب على مِثْل هذه النماذج من الأحاديث والحوادث ، لايخلو من طرفةٍ، يُمتع بها القارئ ، لأنها لقطات اجتماعية تعبر عمّا يمور به المجتمع من سلب وايجاب ..!!
-3-
جاء في ص101 من الكتاب المذكور :
” قامت في العراق (58) وزارة خلال 37 سنة .
اي أنَّ معدل عمر كلّ وزارة يقل عن 8 أشهر “
انّ الحكم الملكي في العراق امتّد من (1921-1958) وكثرة عدد الوزارات اشارة الى (المدّ) و(والجزر) في طبيعة الشعب العراقي
وكما قال الشاعر :
هذا العراق وكان في
                    زمنِ من الازمان بحراً
سننُ الوراثة كوّنت
                  في طبعه (مدّاً) و(جَزْرا)
متقلّب كرياحِهِ
                  مابين آونةٍ وأخرى
-4-
إنّ عكوف المهنيين على كتابة مذكراتهم وتدوين بعض ما يمّر بهم من قضايا، يضع بين يدين القرّاء حُزمةً من الاخبار والتجارب، تُعتبر بمثابة المرآة التي تعكس حالة المرحلة عاشوا فيها ، وهي بهذا الوصف ، إضاءة نافعة لمعرفة تلك المرحلة الزمنية عبر الوقوف على مفرداتها …
ومن طريف ما ذكر د.سلمان درويش في مذكراته ص165 :
ان شخصية مرموقة جاء الى معهد الأشعة – وكان د. درويش طبيباً فيه – لفحص قدمه بالأشعة إثر سقوطه من درجات السلّم .
يقول :
كتبتُ التقرير بسلامته من الكسور وجاء سائقه لتسلمه ، وطلبتُ من كاتب الطابعة إحضار التقرير لتوقيعه ، واذا به :
(انه حامل في الشهر الثامن ، ووضع الجنين طبيعي )
فحمدت الله على عدم التسرع للتوقيع عليه ..!!
ويقول في ص163
” دخل غرفة الفحص السريري ، وأخرج من جيبه قائمة بشكاواه العديدة، سجلها لئلا تفوته واحدة منها …
وبعد الفحص الدقيق الذي استغرق أكثر من نصف الساعة ، أوضحتُ له أنني لم اعثر على شيء غير طبيعي ،
كما أفضّل الا يتعاطى أي دواء لان شكاواه كلها وهمية .
ومن المستحسن ألا يهتم بها فقال :
اذن فأنا معافى ولا احتاج الى اية عناية طبية
الحمد لله شكراً، وخرج دون ان يدفع أجرة الفحص لانه غير مريض .
ولم اعطه ” وصفة “
وعلمنّي اذا ما جاء مراجع مثلُه بشكاوى تافهة ، ان أقوم بتطمينه بعدم عثُوري ما يوجب القلق ، ولكنْ عليّ انْ أناوله وصفة اية وصفة كانت تحتوي على (فيتامينات) مثلاً لاستحق أجرة الفحص ..!!
وشكا اليه أحد زملائه الكساد، فسأله عن الأجرة التي يتقاضاها لقاء الفحص السريري فأجاب :
انها نصف دينار
فأفهمه أنّ العراقي وخاصة الاميّ لم يتعود بَعْدُ على دفع أجرة فحص سريري، ولكنه على استعداد لدفع اي مبلغ كان لقاء زرق الحُقن سواء أكانت تحت الجلد أو في العضلات أو في الوريد ،
واشار عليه ان يتقاضي ربع دينار ، ويصف الحقن بالأضافة الى الحبوب والمركبات السائلة ويتقاضى عنها ما يشاء .
وطبّق زميله ما قال له ، وعاد اليه ليشكره على نجاح التجربة ..!!
(المذكرات ص164)
ويقول :
اشتريتُ جهاز أشعة من مستشفى الحبانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت أسلاكُه مكشوفة، احيانا تحتك الواحدة بالاخرى خلال الفحص وتُحدث فرقعة شديدة .
وانتهيتُ ذات مرة ، من فحص احد المراجعين ، وسألني عن الأجره فعيّنتها له فسلمني إياها عن طِيبِ خاطر وقال
بالعافية عمي
حلال عليك الإجرة
هذه قليلة بحقك
(ماكينتُك) على رأسي …
فحصتُ لدى أطباء كثيرين من قبل ، ولكنهم كانوا (قشامر) لاحس ولا حركة ، أما هنا ماشاء الله :
طاق طاق …
عمي بالعافية أجرتك ..!!
وكان يقال في الأمثال :
{ لكل ساقطة لاقطة }
فانظر الى هذا المريض المسكين، الذي اعتبر جهاز الأشعة القديم الذي يُخرج أثناء الفحص ( فرقعاتٍ منكرة ورجاتٍ مفزعة ) الأحسن الأفضل ، وحكم على كلّ الأطباء الذين راجعهم من قبل بالفشل ..!!
(المذكرات 162-163)
لقد كتب المرحوم العلاّمة السيد عباس شبر – القاضي الشرعي – كتابا اسماه ( أغرب ما رأيت في القضاء )
ولكنه – لم يطبع للأسف حتى اليوم
إنّ في كتابة المهنيين لمذكراتهم ، وسردهم للحوادث والوقائع التي تمرّ بهم، فوائد جمّة لاينبغي ان تُحرم الأجيال منها .
ومن هنا :
فدعو المهنيين كافة لتدوين مذكراتهم بعيداً عن الزهد فيها ….
[email protected]
Alminbear.com

أحدث المقالات

أحدث المقالات