في السرديات التاريخية، تحمل( الأصنام) دلالات رمزية متعددة ومعقدة، تختلف هذه الدلالات باختلاف الثقافات والسياقات التاريخية. غالبًا ما تُستخدم كتمثيل مادي للآلهة أو القوى الروحية التي يعبدها الناس. من خلال (الأصنام)، يمكن للمؤمنين بها التواصل مع هذه القوى الروحية وتقديم القرابين والصلوات ويمكن أن تكون رموزًا قوية للهوية الثقافية والدينية لمجموعة معينة من الناس، ويمكن أن تمثل التاريخ والمعتقدات والقيم المشتركة في بعض الحالات، كذلك يمكن أن تكون رموزًا للسلطة والقوة، سواء كانت سلطة دينية أو سياسية. تستخدم السلطات الحاكمة (الأصنام) لتعزيز شرعيتها وقوتها في بعض السرديات التاريخية، خاصة تلك التي تكتب من منظور ديني أو ثقافي مختلف، في سياقات اخرى يمكن أن ترمز الأصنام إلى الجهل والتخلف والانحراف عن الدين الصحيح وغالبًا ما ترتبط (الأصنام) بالوثنية، وهي ممارسة عبادة الأوثان وغيرها من الأشياء المادية. لذلك يمكن أن تكون الوثنية رمزًا للانحراف عن التوحيد أو الدين الصحيح بشكل عام. الدلالة الرمزية للأصنام معقدة ومتعددة الأوجه، وتعتمد على السياق الثقافي والتاريخي المحدد، بالإضافة إلى الدلالات التاريخية والدينية، يمكن أن تشير كلمة (أصنام) أيضًا إلى محددات العقل أو العوائق التي تقف في طريق استخدام التفكير النقدي وهذا مستوحى من الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون ، الذي استخدم مصطلح (أصنام) العقل*.
(الاصنام) والتفكير النقدي
عندما نتحدث عن (الأصنام) في سياق التفكير النقدي، فإننا نشير إلى هذه المحددات العقلية التي تعيق قدرتنا على التفكير بشكل موضوعي وعقلاني.من محددات التفكير النقدي هو الميل إلى تفضيل وجهة نظر معينة على أخرى بناءً على العواطف أو التجارب الشخصية وقبول الأفكار والمعتقدات دون فحصها أو التفكير فيها بشكل نقدي نظرا الى الميل و التوافق مع آراء المجموعة، حتى لو كانت خاطئة ورفض قبول وجهات نظر مختلفة أو التفكير فيها ،كذلك يمكن ان تلعب السلطة دورا هاما في الترويج الى قبول المعلومات أو الآراء لمجرد أنها قادمة من شخصية ذات سلطة. التغلب على هذه( الأصنام) في التفكير النقدي مهمة شاقة ومعقدة لان كثير من دوافعها ذات بنى عميقة في تاريخ الانسان التطوري ،سنحتاج الى التعرف على التحيزات الشخصية وكيفية تأثيرها على التفكير ،فحص السرديات والمعتقدات بشكل نقدي. كما ان طرح الأسئلة، والبحث عن الأدلة والانفتاح على وجهات نظر مختلفة، يمثل استعدادا لتغيير الرأي إذا كانت الأدلة تشير إلى ذلك، يتطلب هذا التفكير بشكل مستقل، الاستقلالية وعدم الاعتماد على آراء الآخرين دون تفكير يمثل الجزء الصعب من القضية، ان استخدام مصطلح (الأصنام) للإشارة إلى محددات العقل في التفكير النقدي هو استعارة قوية تذكرنا بأهمية التفكير بشكل وموضوعي لتجنب الوقوع في الأخطاء التي يمكن أن تعيق فهمنا للعالم.
التمييز بين التحيز والتفسير الموضوعي
لا توجد طريقة مضمونة تمامًا للتمييز بين التحيز والتفسير الموضوعي في السرديات التاريخية. مع ذلك، من خلال فحص المصادر، تحليل اللغة، البحث عن وجهات نظر بديلة، تقييم الحجج، والوعي بالتحيزات الشخصية، يمكننا أن نصبح أكثر وعيًا للسرديات التاريخية وأن نطور فهمًا أكثر دقة وتعقيدًا للماضي، ونتذكر أن التاريخ ليس مجموعة من الحقائق الثابتة، بل هو سلسلة من التفسيرات التي تتغير باستمرار مع ظهور أدلة جديدة، تتطلب تغير وجهات النظر في التعامل مع التحيز الضمني في السرديات التاريخية الذي يمثل تحديًا خاصًا لأنه غالبًا ما يكون غير واعٍ وغير مقصود. التحيز الضمني هو عبارة عن مواقف أو قوالب نمطية غير واعية تؤثر على فهمنا وأحكامنا وقراراتنا من خلال الاعتراف بأن التحيز الضمني موجود ويمكن أن يؤثر على الجميع، ان التعرف على الأنواع الشائعة من التحيزات الضمنية، مثل التحيز العرقي، والتحيز الجنسي، والتحيز الطبقي تستمر كمحددات للعقل في التأثير على تفكيرنا في العصر الحديث. على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي يمكن ان يرجع هذا الى عدة أسباب بعض التحيزات متأصلة في الطبيعة البشرية نفسها اذ يميل الانسان إلى البحث عن أنماط لتأكيد معتقداته الموجودة، و تفضيل مجموعته الخاصة، هذه الميول كانت مفيدة في الماضي التطوري، لكنها يمكن أن تؤدي إلى أخطاء في التفكير في العصر الحالي ،من المعروف ان التفكير النقدي يتطلب جهدا لكن من الأسهل قبول المعلومات التي تتوافق مع المعتقدات الحالية بدلاً من تحدي هذه المعتقدات كما اننا نحن نعيش في عصر وفرة المعلومات، مما يجعل من الصعب تقييم مصداقية المعلومات وتحديد ما هو صحيح وما هو خاطئ لكن مع زيادة التخصص في المعرفة، أصبح من الصعب على أي شخص أن يكون خبيرًا في كل شيء، هذا يجعلنا أكثر عرضة للاعتماد على آراء الخبراء، حتى لو كانوا متحيزين حيث سمحت لنا وسائل التواصل الاجتماعي بالاتصال بأشخاص يشبهوننا في التفكير.
غرف الصدى
هي بيئات معلوماتية حيث يواجه الأفراد بشكل أساسي آراء ومعتقدات تتوافق مع الآراء والمعتقدات الخاصة، مما يعزز هذه الآراء ويقلل من تعرضها لوجهات نظر مختلفة أو معارضة. هذا يمكن أن يؤدي إلى الاستقطاب، وتصلب الآراء، وصعوبة الفهم أو التعاطف مع وجهات نظر الآخرين، تجنب غرف الصدى يتطلب جهدًا واعيًا ومستمرًا من خلال تنويع مصادر المعلومات، والتحقق منها ، والتفاعل مع الآخرين، لغرض توسيع آفاق الفهم .غالبًا ما تجذب المؤسسات الدينية أشخاصًا يشتركون في نفس المعتقدات والقيم، يساعد في خلق (غرفة صدى )حيث يتم تعزيز هذه المعتقدات والقيم بشكل مستمر، بينما يتم تجاهل أو انتقاد وجهات النظر الأخرى، تلعب (غرف الصدى) دورًا معقدًا وحاسمًا في تشكيل الذاكرة الجماعية، تعمل على تضخيم الروايات والأفكار السائدة بالفعل في المجتمع. عندما يسمع الأفراد نفس الرسائل مرارًا وتكرارًا من مصادر متعددة داخل الغرفة، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بصحتها وتقويتها في ذاكرتهم من خلال تكرار نفس المعلومات، تقلل (غرف الصدى) من الشك أو التساؤل حول صحة هذه المعلومات، يؤدي هذا إلى ترسيخها كجزء لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية ،تقوم (غرف الصدى) بفلترة المعلومات التي لا تتوافق مع الروايات المهيمنة، هذا يعني أن الأصوات والقصص البديلة أو المعارضة يتم استبعادها وتهميشها، مما يمنعها من الوصول إلى الذاكرة الجماعية ،من خلال تضخيم الروايات المهيمنة وتهميش الروايات البديلة، تساهم (غرف الصدى) في خلق الانقسام والاستقطاب في المجتمع. هذا يمكن أن يؤدي إلى صراعات وتوترات اجتماعية، وتساعد على تعزيز الانتماء إلى مجموعة معينة من خلال مشاركة نفس الروايات والقيم. ويعزز شعورًا بالهوية الجماعية المنحازة والمشتركة، في الوقت نفسه، تساعد على تحديد( الآخر) من خلال استبعاد وتهميش الروايات البديلة، من خلال تضخيم الروايات المهيمنة ، يمكن( لغرف الصدى) أن تمنع المراجعة النقدية للتاريخ. هذا يؤدي إلى تجميد التاريخ في شكل معين، مما يمنع المجتمع من التعلم من أخطائه. في بعض الحالات، يمكن( لغرف الصدى) أن تشوه الحقائق التاريخية من خلال تضخيم بعض الأحداث وتجاهل أخرى. هذا يمكن أن يؤدي إلى فهم خاطئ للماضي باختصار، تلعب (غرف الصدى) دورًا حاسمًا في تشكيل الذاكرة الجماعية من خلال تضخيم الروايات المهيمنة، وتهميش الروايات البديلة، وتشكيل الهوية الجماعية، وتجميد التاريخ، فهم هذه الآليات أمر ضروري لفهم كيف تتشكل المجتمعات وكيف تتذكر ماضيها يمكن ربط رمزية ودراسة الماضي وتأثيره على الحاضر، اذ تمثل الأصنام الماضي، وغرف الصدى تمثل كيف يتردد هذا الماضي في الحاضر ويمكن ربط الرمزيتين من خلال فكرة من التغيير الى الثبات. تدمير الأصنام يمثل التغيير، بينما غرف الصدى تمثل الثبات والتمسك بالماضي.
——————————-
* أصنام بيكون الأربعة*
أصنام القبيلة (Idols of the Tribe)
أصنام الكهف (Idols of the Cave)
أصنام السوق (Idols of the Marketplace)
أصنام المسرح (Idols of the Theatre)