الإنسان الريعي… حين يتعفن الوعي في ظل اقتصاد الاستيراد والاستهلاك .

الإنسان الريعي… حين يتعفن الوعي في ظل اقتصاد الاستيراد والاستهلاك .

في كل اقتصاد ريعي لا يموت الإنتاج فقط بل يُدفن الإنسان داخله ببطء. فحين تكتفي الدول ببيع الموارد الخام وتتحوّل من كيانات محفزة للإبداع إلى موزعة للرواتب والمنافع، يتآكل الإنسان من الداخل لا يعود الفرد منتجًا ولا مواطنًا بل مستهلكًا دائمًا، فاقدًا للبوصلة منزوع الإرادة.
في العراق هذه الأزمة ليست مجرد خلل اقتصادي بل تشوه وجودي ،بلد يملك الثروات لكنه لا يملك إرادة التحول سبعة ملايين موظف حكومي( موظف- متقاعد – رعاية ) عشرات الملايين من المستهلكين، ونخب سياسية تعتاش على ريع النفط وتدور في حلقة التوزيع دون تفكير ببناء دولة إنتاج.

الوظيفة تحوّلت إلى غنيمة والموازنة إلى “صندوق مغلق” والعقل الجمعي إلى “آلة انتظار”. ينتظر الناس التعيين، المخصصات، المعاملات، وحتى القروض دون مشروع ، ثقافة الاستهلاك قتلت الطموح وخلقت جيلًا يتقن المطالبة ولا يعرف المسؤولية.

في الاقتصاد الريعي لا أحد يُحاسب ، فلا الدولة تستمد قوتها من دافعي الضرائب ولا المواطن يشعر أنه شريك ، الكل مستهلك، الكل ينتظر، والكل غارق في دوامة من الركود النفسي والسلوكي.

تحت هذه المنظومة يصبح الإنسان هشًا، سريع الانكسار، قليل الحيلة، يرى في الدولة “أبًا مانحًا” لا مؤسسة محاسبة ، يصبح الولاء أهم من الكفاءة والمجاملات أغلى من الأفكار. إنه تعفّن تدريجي للوعي لا تُدرك نتائجه إلا حين تُصبح المجتمعات عاجزة حتى عن الغضب.

ما يحصل في العراق اليوم ليس فقط فشلًا في التنويع الاقتصادي بل فشل في إنتاج الإنسان. إنسان لا يرى نفسه إلا موظفًا ولا يعرف الحياة خارج مؤسسات الريع ، بلد يستورد كل شيء حتى اللبن والدفاتر ويُهمّش كل ما يمكن أن يُنتج الوعي: التعليم، الابتكار، العمل الحقيقي.

هل يمكن إنقاذ هذا الإنسان؟ نعم لكن فقط عندما تتحول الدولة من موزّع للريع إلى راعية للإنتاج وحين يُفكّر المواطن خارج إطار “الراتب”، و”التعيين”، و”المكرمة”.

التحوّل يبدأ حين نُعيد بناء الإنسان أولًا:
نُعيد إليه ثقافة الإنتاج، نربطه بالمساءلة، نفتح له أبواب القطاع الخاص، نحفّزه لا على الانتظار بل على المبادرة.

الاقتصاد ليس مجرد أرقام هو مرآة للوعي، وانعكاس لنمط الحياة. وكل ريع لا يرافقه مشروع وطني سينقلب على الإنسان أولًا.

أحدث المقالات

أحدث المقالات