شهد العالم في العقود الأخيرة ثورة تكنولوجية متميزة وكبيرة في وسائل الاتصالات، وكان أحد ثمارها الرئيسية وسائل التواصل الاجتماعي التي غيرت مسيرة العائلة جذريًا من خلال التفاعل البشري، كونها توفر إمكانيات غير محدودة وربما أصبحت الرفيق الملازم لنا جميعًا حتى ونحن نجلس وحيدين في منازلنا أو من خلال مرافقتنا في رحلاتنا وأسفارنا الدائمة.
ولكن تبقى هناك أسئلة كثيرة مبهمة، أهمها أن هذه المواقع ربما قد أصبحت جسرًا للتقارب بين العديد من أفراد العالم، بل الاطلاع على الواقع الاجتماعي والاقتصادي لبعض المجتمعات. ولكن لكل تكنولوجيا حديثة، وكما يقال، مساوئ وإيجابيات لأنها سلاح ذو حدين. فهل أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بالإيجابيات المعروفة عزلة وهاوية تجر الإنسان نحو حياة الانفصال والابتعاد عن الواقع الذي يعيشه أحيانًا داخل أسرته أو مع محيطه الخارجي وأصدقائه؟
ورغم أن الجميع يعتبر أنها جسور مبنية على التواصل والتقارب بين أبناء البشرية، وأنها لعبت أدوارًا إيجابية في جمع شتات البشرية من مشارق الغرب إلى مغاربها ومن شمالها إلى جنوبها، حيث أصبح بإمكان الإنسان أن يتواصل مع جميع أصدقائه ومعارفه في أي مكان أو بقعة من بقاع الكرة الأرضية وكأنهم يعيشون ضمن منزل واحد. لأن منصات الفيسبوك وتويتر وإنستغرام وغيرها قد أصبحت لها الفاعلية والقدرة في التعبير عن الرأي، إضافة إلى الثقافة العامة والتي من خلالها نستطيع أن ندعم قضايانا المجتمعية وخاصة القضايا الإنسانية. ويبقى هناك تساؤل واحد لكل هذه الخدمات المجانية والتي وصلت بنا إلى عالم الذكاء الاصطناعي الذي يمهد الطريق أمام الإنسان في الكثير من المجالات ويستطيع أن يجمع المعلومات الكاملة عن كل شخصية موجودة ضمن هذه المواقع الإلكترونية. ما هو الثمن مقابل كل هذا؟ ربما ننظر نحن الجيل القديم إلى أن هذا الانفتاح الرقمي ثمنه هو تهديم العلاقات الاجتماعية التي كانت من مجريات الواقع وكانت حقيقة يعيشها الناس ضمن الوقت والمكان وبعيدًا عن العالم الافتراضي وقريبًا جدًا من الواقعية الحقيقية. حتى وإن كانت لحظات الانتظار أو أوقات الفراغ كثيرة، إلا أن راحة الإنسان كانت متوفرة أكثر وخاصة الراحة الفكرية، وكانت هناك حواجز كثيرة بين الواقع السكني نفسه حتى من النواحي الجغرافية وقد ولدت بيئة تتميز بعادات وتقاليد مختلفه فحياة المدينة بعيدة جدًا عن حياة أهالي الريف، أما اليوم فتجد الجميع يعيشون ساعات طويلة أمام هذه الشاشات ويبتعدون كثيرًا عن الحوار المباشر الحقيقي، وهذا ما يوصل البعض إلى حالة من مرض الاكتئاب والعزلة مع النفس، وخاصة ما نلاحظه بين جيل الشباب الحالي لأنهم يعيشون عزلة طويلة مع أنفسهم.
إن الجميع اليوم يتعامل مع أفراد أسرته ربما بنوع من الحذر، ولكن يجد من يمنعه من هواجس هذه المحظورات وأن يعيش حياته بصورة طبيعية حتى وإن رأى هناك أخطاء ربما تصل نتائجها إلى أخطار أحيانًا. وعلى سبيل المثال اضطرابات النوم التي يعاني منها جيل المراهقين والشباب بسبب تعلقهم وتواصلهم مع هذه المواقع ليلًا ونهارًا.
نعم، إن مواقع التواصل الاجتماعي بكل مسمياتها وأسوة بغيرها تعتبر سلاح ذو حدين، فإما أن تكون جسر مودة ومحبة للتقارب والتعارف أو بداية لطريق الهاوية والسير في دروب العزلة بلا وعي، خاصة وأن الأغلبية قد ابتعدت عن الضوابط العائلية أو الأسرية.
علينا جميعًا أن نتعلم أن وسائل التواصل الاجتماعي تعتبر أدوات حيادية وتحتاج دومًا إلى الطريقة الصحيحة للاستخدام، ويقع علينا مسؤولية حفظ الموازنة بين العالم الرقمي وبين علاقاتنا الواقعية الحقيقية. وهنا يجب على مؤسساتنا التعليمية أن توضح دومًا لأبنائنا الطلبة عمومًا بكل مراحل دراستهم أن الثورة الإلكترونية الحديثة يجب أن تكون فوائدها عظيمة وأن نبتعد عن البحث عن القشور فقط حتى لا نقع في مطبات ربما يصعب إيجاد حلول لها.