30 أبريل، 2025 12:12 م

العراق والتعددية: نعمةٌ مهدورة أم ابتلاءٌ مصطنع؟

العراق والتعددية: نعمةٌ مهدورة أم ابتلاءٌ مصطنع؟

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، ظلّ التعدد العرقي والديني والمذهبي سمةً بارزة للمجتمع العراقي. تنوعٌ يصفه البعض بالابتلاء، بينما يعتبره آخرون نعمة متى ما حُسن استثماره. الرئيس الراحل جلال طالباني شبّه العراق بـ”شدة ورد” متعددة الألوان والروائح، متى ما اجتمعت، بعثت الأمان والطمأنينة في النفوس.
لكن الواقع، للأسف، يظهر صورةً مختلفة. فالتعدد في العراق كان في كثير من المحطات التاريخية نقمة أكثر منه نعمة. يعود ذلك إلى طبيعة التعامل مع هذا التنوع، وإلى ارتباط كل مكوّن عراقي بامتدادات خارجية ــــ عقائدية أو قومية أو تحالفية ــــ لم تُسخّر لمصلحة العراق، بل غالبًا ما كانت أداة للاستقواء على الشركاء في الوطن.
السنّي استنجد بالمحيط العربي للتحريض على الشيعة، والشيعي استظل بإيران في صراعه مع الآخر، والكردي تمسك بالعلاقة مع القوى الدولية ليضغط على الحكومة المركزية، وكذلك فعلت بقية المكونات. فبدل أن تكون هذه الامتدادات جسورًا لجلب الدعم والخبرات، تحولت إلى معاول تفتيت وتمزيق، فتكرّست الشروخ العميقة، وضاعت فرص التعايش والاستقرار.
منذ تأسيس المملكة العراقية وحتى عام 2003، تولّت الأقلية السكانية الحكم بتخطيط خارجي محكم، سعى لإبقاء السلطة ضعيفة، دون قاعدة شعبية، لتظل مرهونة بقرار الخارج، ومستعدة للاستبدال متى ما قرّر داعموها. هذا النهج أفرز سلسلة من الانقلابات والحروب العبثية التي أنهكت العراق، وحوّلته إلى بلد غني بالخيرات، فقير بالخدمات، حتى بات أشبه بدولة إفريقية تعاني من الحرمان رغم وفرة الموارد.
في أعقاب عام 2003، طرح الراحل السيد عبدالعزيز الحكيم معادلة “حكم الأغلبية” كبديل لما سمّاه بـ”الحكم الظالم” القائم على سيطرة الأقلية. قد يبدو هذا الطرح طائفياً من الوهلة الأولى، لكنه في جوهره محاولة لتصحيح معادلة مغلوطة استمرت أكثر من ثمانية عقود. فالحكم المدعوم بالأغلبية السكانية يمتلك قاعدة شعبية تقيه من الارتهان للخارج، على عكس سلطة الأقلية التي لا تجد بدًّا من الاستقواء بالقوة والتبعية لتأمين بقائها.
النظام الجديد بعد 2003 جاء بنموذج تشاركي، يمنح كل مكون تمثيله الحقيقي حسب حجمه السكاني، لكن هذا التحول قوبل بعنادٍ وإنكار من بعض القوى، خاصة من المكوّن السنّي الذي لم يعترف بأحقية الأغلبية الشيعية إلا مؤخراً. أما القيادات الكردية، فظلت تحلم بالدولة المستقلة رغم استحالة تحققها في ظل التعقيدات الإقليمية والدولية، فلجأت إلى التمرد على المركز والدستور، ولو على حساب المواطن الكردي.
رغم هذه التحديات، يواصل السيد عمار الحكيم مشروعه الوطني، مؤمنًا بأن التعدد في العراق نعمة يجب صيانتها، وأن معادلة الحكم التشاركي المرتكزة إلى الأغلبية هي المدخل الحقيقي لبناء دولة المواطنة. يجوب المحافظات، من النجف إلى البصرة، ومن أربيل إلى تكريت، وآخرها الأنبار، حاملاً مشروع الوحدة، ساعيًا لإقناع القواعد الشعبية أولًا، بأن الاستقرار لا يأتي إلا من خلال القبول بالحقيقة كما هي.
تحديات الحكيم ليست سهلة، أبرزها الخطاب الطائفي الذي ما زال يسيطر على خطابات كثير من الساسة، الذين لا يجدون في جعبتهم سوى إثارة العواطف واستدعاء الطائفة. كما يواجه هجومًا مستمرًا من خصومه داخل بيئته، بين من ينافسه أو يختلف معه. لكن الوطنية الحقيقية ـــ تلك التي تمزج القول بالفعل ـــ تقتضي من النخب السياسية والثقافية مناقشة مشروع الحكيم بجدية، والبحث في إمكانية دعمه، لأنه قد يمثل ـــ وإن بعد حين ـــ المخرج من نفق الأزمات.
فهل تحسم النخب أمرها، وتمنح هذا المشروع فرصة واقعية؟ أم نظل ندور في دوامة الخطابات الشعبوية التي أحبطت كل مشروع وطني حقيقي؟