لا يخفى على مُتتبع أن السياسة الخارجية لأي دولة تُبنى على مرتكزات مُعقدة تجمع بين الحسابات الجيوسياسية، والموازنات الاقتصادية، والعلاقات التاريخية، فضلًا عن التحديات الأمنية.
ومن المُسَلَّم به أن الغاية الأسمى لأي سياسة خارجية ناجحة هي حماية المصالح العليا للوطن، وضمان رفاهية المواطن وأمنه، دون التضحية بثرواته أو حقوقه لصالح دول أخرى. فالسِّياسي الأمريكي -مثلًا- لا يتردد في تغليب مصالح بلاده حتى لو تعارضت مع مصالح حلفائه، تمامًا كما يفعل السِّياسي الصيني أو الروسي، إذ لا مكان للمشاعر في معادلة المصالح الدولية.
لكن الواقع العراقي -للأسف- يبدو مغايرًا لهذه القاعدة الجوهرية؛ فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لم تشهد السياسة الخارجية إنجازات تُذكر تُحسب لصالح الشعب، بل اتسمت مسيرتها بسلسلة من التنازلات المُجحفة، سواء في مجال الحدود أو المياه أو الثروات، مما فتح الباب أمام دول الجوار للتنافس على انتهاك السيادة العراقية.
والأدهى أن الاعتراضات العراقية -إن وُجدت- تُقابل بمنطق الازدواجية: *«لماذا تُحاسبوننا ولا تُحاسبون غيرنا؟»*، في مشهد يُكرس حالة الاستضعاف ويُعيق بناء سياسة خارجية فاعلة.
التنازلات المشبوهة… بين الأمس واليوم:
لا يكاد يمر عقد من الزمن إلا والعراق يقدم تنازلات تُهدد أمنه الوطني ، بدءًا من الاتفاقيات الحدودية المُلغمة، ومرورًا بالامتيازات الاقتصادية المُجحفة، وصولًا إلى التبرعات التي تُناقض منطق الأولويات… ؛ فمؤخرًا، أقدمت الحكومة العراقية على التبرع بـ220 ألف طن من القمح للحكومة السورية الارهابية المعادية ، وهي الخطوة التي أثارت تساؤلاتٍ حول حِكْمتها في ظل الأزمات الداخلية التي يعانيها العراق، حيث يُعاني ملايين المواطنين من الفقر وغياب الخدمات الأساسية.
جدلية المبررات… بين الواقع والخداع:
يحاول بعض الساسة تبرير هذه الخطوة بـ«حقن دماء المكونات الشيعية والعلوية» في سوريا، أو بتسهيل زيارة العتبات المقدسة، لكن الوقائع تُكذب هذه الادعاءات؛ فـ«عصابات الجولاني» لم تلتزم بأي من هذه الوعود، بل انتهكت حُرمة المراقد المقدسة، واهانت واعتقلت وزجت بالعراقيين الذين دخلوا الأراضي السورية تحت ذرائع مختلفة بل ان البعض منهم تعرض للخطف والقتل .
المفارقة العراقية… بين العطاء والحرمان:
تُصبح المُفارقة أكثر إيلامًا حين نعلم أن قيمة الـ220 ألف طن من القمح (التي تُقدر بنحو 66 مليون دولار) تكفي لبناء عشرات المدارس في المناطق الفقيرة، أو توفير مخصصات غذائية لنحو 22 ألف عائلة عراقية لمدة أشهر… ؛ فكيف يُعقل أن تُنفق حكومةٌ أموالًا بهذا الحجم على تنازلاتٍ خارجية، بينما يعيش شعبها تحت خط الفقر، وتتهاوى بنيته التحتية؟!
السياسة الخارجية… بين العقلنة والتبعية:
لا يعيب الدولة أن تُقدم مساعدات إنسانية لدولٍ في أزمات، لكن العيب كل العيب أن تتحول هذه المساعدات إلى أداة للمُحاصصة الطائفية، أو إلى صفقاتٍ مُجرَّدة من الحس الوطني… ؛ فالسِّياسي الذكي يربط أي تعاون خارجي بضماناتٍ تحمي مصالح بلاده، أما السِّياسي المُنهك -الذي يلهث وراء الشعارات- فيُسخِّر ثروات شعبه لترميم صورة الأنظمة المُتعثرة.
ختامًا:
العراق ليس فقيرًا بموارده، لكنه يُصبح أفقر حين تُدار ثرواته بعقلية الارتجال والتبعية… ؛ آن الأوان لمراجعة السياسة الخارجية بعيدًا عن الانحيازات القومية والطائفية والمذهبية، والارتقاء بها إلى مستوى يحفظ كرامة العراقيين قبل أن يُحاسب التاريخُ من ضيَّعوا حقوق الأجيال القادمة.