حين كنا ، خلال عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن المنصرم ، مغمورين بطوفان الخطابات الراديكالية بكل فصائلها والطوباوية بكل أنواعها والخلاصية بكل تياراتها ، لم نكن نطيق سماع كلمة واحدة تفوح منها رائحة النقد للعراق ككيان جغرافي وتاريخي وحضاري ، حتى ولو كان ذلك النقد يقوم على أسس من الواقعية والوضعية . كما لم نكن نسمح لأي كان أن يلمح بأي اتهام يساق ضد المجتمع العراقي ، حتى وان اشتمل ذلك الاتهام على شيء من الحقيقة والصواب . ذلك لأن الإيديولوجيات التعبوية التي روضتنا خطاباتها على اجتياف وهم ؛ إن المجتمع العراقي ليس كبقية مجتمعات المعمورة التي قد تشاطره القدم في التاريخ ولكنها لا تضارعه في العظمة ، وقد توازيه في الإبداع الحضاري ولكنها لا تدانيه في العراقة ، وقد تكون ندا”له في الديانة ولكنها لا تجاريه في الأمجاد ؛ إن من حيث نقاء أصوله وطهارة أرومانه وقداسة خلفياته . بحيث بتنا ننظر لأنفسنا كما أننا جماعة مختارة من الأطهار والقديسين ، وليس بيننا من يحمل في دخيلته نوازع الأشرار والشياطين . ولهذا لم نبتعد في البحث عن منابع مشاكلنا المستعصية ودوافع إشكالاتنا المزمنة أبعد من أرنبة أنوفنا ، طالما إن العامل الخارجي (المؤامرة) كان حاضرا”على الدوام ، ليتكفل بتجنيبنا عناء البحث والاستقصاء عن الأسباب الداخلية / الذاتية ، التي ربما كانت – وهي كانت فعلا”- خلف كل هذا الخراب والدمار الذي حل بنا ؛ ليس فقط على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة فحسب ، بل وكذلك على مستوى التاريخ والجغرافيا والدين والهوية . ومن باب المقارنة فقد سبق للمفكر المغاربي (مالك بن بني) أن وصم العرب بأن لهم من الخصائص الذاتية / النفسية والعوامل الموضوعية / السياسية ، ما يشجع الآخرين على غزوهم واستعمرهم ونهب ثرواتهم وإعاقة نهضتهم وتحقيق حداثتهم . والحال إن في طبيعة المجتمع العراقي – رغم كونه من الشعوب العربية التي شملها التصنيف المذكور – الكثير من الوقائع والمعطيات التي تؤكد مثل هذا النمط من التشخيص المعياري . لاسيما وانه ما برح يثبت بلا ندم أو حياء كونه من أكثر تلك الشعوب تمسكا”بخلفياته العنصرية ، وأشدها ضراوة في الدفاع عن مرجعياته المذهبية ، وأسرعها في التكشير عن أنيابه العدوانية ، وأكفئها براعة في التنصل من ثوابته الوطنية . يروى عن رئيس الوزراء العراقي الأسبق (نوري السعيد) انه كان يحاجج خصومه ويجادل معارضيه ، بصيغة متداولة في الأوساط الشعبية فحواها ( دعوني أخفي عيوبكم الفاقعة وأستر عوراتكم المكشوفة ، فاني لكم كما الغطاء الذي يمنع طفح قاذوراتكم النتنة إلى الخارج ) . وإذا ما صحت هذه الرواية فان هذا السياسي المخضرم يكون قد حاز على إدراك من العمق بحيث مكنه من سبر طبيعة القاع الانثروبولوجي للمجتمع العراقي ، على نحو من الدقة والوضوح تخطى بأشواط ليس فقط ادعاء معاصريه من النخب السياسية والثقافية فحسب ، بل وتجاوز مزاعم اللاحقين عليه من أرباب السياسة وطلاب السلطة ، سواء من المدنيين الذين دالت لهم السلطة عن طريق الثورات الحمراء والبيضاء – هل كانت حقا”ثورات بالمعنى السياسي – أو من العسكريين الذين تسلقوا هرم السلطة عن طريق المؤامرات والانقلابات . ولعل كعب أخيل السياسة العراقية في كل العصور يقع في صميم هذه الإشكالية السوسيولوجية / السيكولوجية ، التي وصمت تاريخ الدولة العراقية منذ عهد الاستقلال ولحد الآن ، بحيث يبدو من المتعذر – إن لم يكن من المستحيل – تخطي هذه اللعنة والنجاة من هذه المحنة ، إلاّ بمجهودات فكرية جسورة ومحاولات وطنية مخلصة ، تستهدف تشريح وتحليل الشخصية العراقية فضلا”عن تفكيك مدماكها الذهني والمخيالي ، للوقوف على الأسباب الخفية والدوافع العميقة التي تجعل من هذه الشخصية لا تنتج فقط هذا الكم الهائل من ضروب العنف الاجتماعي والفوضى السياسية فحسب ، وإنما كونها طاردة لكل ما فيها من عناصر الرقي والتقدم والحضارة من جهة ، واحتضانها ورعايتها لكل ما في الطبيعة الإنسانية من نوازع بدائية ودوافع همجية ، لا ترقى في مواقفها وسلوكياتها عن مستوى مخلوقات العالم السفلي ، التي لم تبرح تتناسل وتتوالد داخل مستنقعات العنصرية الشوفينية ، والمذهبية الطائفية ، والقبلية العشائرية . وبخلاف ذلك فان العراق بكل ما تعنيه هذه الكلمة من بعد حضاري وعمق تاريخي ومدى جغرافي ووجود اجتماعي وحضور ثقافي ، سيبقى – ونعتقد شخصيا”انه سيبقى – مسرحا”تعيث فيه لتلك المخلوقات ؛ خرابا”حضاريا”وتشويها”تاريخيا”ودمارا”اجتماعيا”وفسادا”اخلاقيا”واندثارا”جغرافيا”وانحطاطا”انسانية . وهنا لا نعود نتحدث عن مجتمع سليم ومعافى ، كان يوما”له من الحضور والفاعلية ما يشرف أبنائه ويكون مدعاة لفخرهم وزهوهم ، وإنما عن كائنات هلامية متطفلة لعنها التاريخ ولفظتها الإنسانية ومسخها الله !!.