27 أبريل، 2025 10:00 م

مقامة القلب المتبتل

مقامة القلب المتبتل

يخونني النوم , يختبئُ في جيبِ الندم , ويهربُ كلما همستُ له باسمك , وكل شيءٍ فيّ مؤجل حتى دمعتي تنزل بتوقيت الغيم لا بتوقيت الألم , أيها المجهول في الذاكرة , كم مرةً يجب أن أموتَ حتى أفهم أن الحياة لا تقبلُ التأويل ؟ وأنا كلما غرقتُ أكثر , يظهرَ لي وجهٌ من ضوء لا يُشبهك , لكنّه يُشبه الكلمة الأولى حين نطقها الوجودُ قبل أن يولد الصوت , أراك تغادرُ على ظهر طائرٍ من دخان لا وجه له ولا ظلّ , ولا لغة , والوقتُ يذوبُ في فنجان قهوتي , كأنني أحتسي شريطَ العمر حلقةً بعد أخرى , والألمُ يجلسُ قبالتي يحدثني عن نفسه بلغةٍ لا يتقنها إلا الغائبون , وكل شيءٍ يعودُ إلا الطمأنينة , حيث يعلو صراخ القلب : أنتَ لستَ جسدًا يعبر الليل , بل ومضةٌ نسيتها النجوم في جيب السماء , ابتسم لا لأن الألم انتهى , بل لأنني عرفتُ أنني أنا ولستُ أحدًا آخر.

يَا هَذَا الْحَمَامُ , أَلَمْ تَمَلَّ التَّمَرُّغَ فِي الرُّغَامِ؟ يَا هَذَا , أَمَا آنَ لِنَاعُورِكَ الصَّمْتُ ؟ صَبْرُ الْقَطَا , حين لوي عُنُقُ الرَّيْحَانِ , والنبضُ يصعدُ كسلّمٍ من دخانِ الزئبق , لما ذُبْتُ في أول نظرةٍ , لم تكن في عينٍ لم تُخلق حين مرّ بي اسمُك , كالريح في رئة الطين , ولم أعد أعرف وجهي , ولا ظلّي , كلّما لمستُ جلدي انفكّ عني , كأنه ليس لي بل استعارةٌ لرحلة , وظَبْيَةُ طَرْفِي كَنَسَتْ فِي مَرَايَا الْهُجْرَانِ , لَا نِهَايَةَ لِلْحِكَايَةِ , لَا بَدَايَةَ لِلْوِلَايَةِ , الْغُفْرَانُ مَسْرَبُ نَدْمَانِ النِّسْيَانِ , وَالنَّدَمُ سِجْنِي , سَجَّانُهُ عَلَّمَنِي حِكْمَةَ عَجْزِ اللُّغَةِ عَنِ الْعَفْوِ ,فأَتَعَلَّقُ بِخَيْطٍ مِنْ نُورٍ , لَكِنَّهُ مَهْمَا ثَبَتَ , لَا يسْمَعُ مِنِّي آهًا , سَأَبْتَلِعُ مِفْتَاحَ الهم , وَغِلَالَةَ الْإِفْصَاحِ , وأُغْلِقُ نَافِذَةَ الدَّمْعِ وَأَغْفُو, ترى لماذا جعلتَ القلب بابًا ؟ لماذا وضعتَ الكون في قطرة وأنزلتَني لأُضيّعها ؟

يَا لَقَلْبِكَ , جُمُوحُ الطَّرْفِ فِي ذَا الضَّبَابِ , يَا لَقَلْبِكَ , بِلا عِنَاقٍ , غَزَالَةٌ تُطَارِدُهَا أَشْبَاحُ نُعْسٍ بَعِيدًا عَنْ كَنَسِي , أَيُّهَا الْمَعْجُونُ بِالزُّلَالِ , يَا قَدَرِي , لَا أَرَى مِنْكَ غَيْرَ رَمَادٍ كَبَّ فِي وَجْهِ مُطَالِعِي , وَعَلَى وِسَادَاتِ مَضْجَعِي يَتَسَلَّلُ الْأَرَقُ الْغَرِيبُ , يَجُولُ فِي أَرْجَائِيَ , يَخْطِفُ سِرَّ السُّكُونِ , وَيُطَوِّقُنِي , خَلْوَةَ صَبْوَةٍ , يمر قَمَرُ الْغُرْبَةِ دُونَ إِلْقَاءِ التَّحِيَّةِ , ونخلة النَّاصِيَةِ بَكَتْنِي , حِينَ أَنْكَرَنِي الْغَدُ قَبْلَ صِيَاحِ الدِّيكِ , خُذْنِي جَمْرَةً لِكَنُونِكَ , قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ الشِّتَاءُ , يَأْخُذَ مَعَهُ أَحْضَانًا شَبَّتْ بَهْجَتُهَا فِي أَرْكَانِ بَرِّيَّةِ شُرْفَةِ قَلْبِي , فَكَانَتْ جَمْرَةَ قَيْظٍ فِي جَيْبِي , انزِع جُفُونِي , لَا هَاجِسَ يُفْزِعُنِي , لَا كَابُوسَ يُلْبِسُنِي عَارَ الْكَشْفِ عَنْ أَسْرَارِ الْحَرْفِ , فكِّ مَغَالِيقِ الطَّلَاسِمِ , وَدعني فِي الْعَرَاءِ أُمَارِسُ صَلَاةَ الْخَوْفِ .

ها انظرْ إليه , كأنه يتدلّى من كوكبٍ بعيد , يعزف على أوتارِ الريح في مدارٍ مُعطّل ,
لا تُخبره بشيء , فصوتُك يتحللُ في أذنيه كقطيعِ نملٍ من الضوء , هو اجتياحٌ صامت
فوضويّ , يملأُ الغرفةَ بطنينِ أعضائه المنفلتة , وجُزيئاته تتبخّرُ في كأسٍ من نبيذٍ بطعم النّدم , رمادهُ يرقصُ عاليا في فراغِ الليل , مَنْ قَالَ إِنَّ مِحْبَرَةَ الْغَوَايَةِ نَضَبَتْ ؟ بُسْتَانٌ يُوَزِّعُ رَغِيفَ الدُّعَاءِ , هِلَالُ إِجَابَةٍ مَا زَالَ فِي سَمَاءِ السَّمَادِ , فَانُوسُ اللهِ يَتَدَلَّى , عُودُهُ أَصَابَهُ مِنْ سُرَيَانِ النَّارِ فِي الْغَضَى , كُلُّ الصَّحْرَاءِ , للصُّعلْوك طَرِيقٌ , أُهْدِي الْمِحْنَةَ وَجَسًّا , أَسْتَلُّ الطَّعْنَةَ مِنْ خَاصِرَتِي , مِنْ مَضَارِبِ الْهَزِيمَةِ لَوْحَةُ الْعُزْلَةِ , أَسْرِي لَيْلًا , لَنْ أُعَرِّجَ عَلَى شرَفاَتِهَا , مَهْمَا اشْتَدَّ بِيَ التَّوْقُ , يَحْرِمُنِي الْوَسَنُ , وخَرَسُ الْقَرَنْفُلِ لَا يَقْتُلُهُ الظَّمَأُ , يَمُوتُ , فَلَمْ يَتَهَادَهُ الْعُشَّاقُ لَا فِي قَيْظٍ , وَلَا فِي فَيْضٍ .

ها هو لك , هو طيفٌ لا يُرى , عيناهُ أسرابُ طيورٍ مهاجرة تبحثُ عن مجرّةٍ تنامُ فيها الموسيقى وتحلم , أصابعه فراشاتٌ طفوليّة تُشعلُ الوتر ثم تهربُ من وهجِ العزف ,
إنه شرارةٌ مُرتويةٌ من حنينِ الجمر , يشتعلُ ولا يلتفت , تَتَهَشَّمُ الْكَلِمَاتُ , تَتَشَظَّى الْمَعَانِي بَيْنَ أَرْكَانِي , أَتَصَفَّحُ وَجْهَ مَحْبَسِي مُتَمَنِّعًا عَنْ غُفْرَانٍ , بِوَاسِطَةِ الْكِتَابِ , وَخَوَانِ الْعِتَابِ , زَادُهُ الْأَنْفَاسُ , وَالْمُعَوَّذَاتُ , تَذْبُلُ أَصَابِعِي , وَالْخُزَامَى , وَالْأَحْزَانُ , وَالْأَقْحُوَانُ , عَبِيرٌ يَسْرِي فِي بَدَنِي , نَافِلَةُ نُفُورٍ, يَتَلَعْثَمُ التَّهَجُّدُ فِي مَآقِيَّ , أَتَسَاءَلُ عَنْ نَوْبَةِ النَّايِ , تَخْرُجُ آنَاتُهُ الْمَجْرُوحَةُ مِنْ صَدْرِي , تَقْطِفُ مَوَّالَ نَبْضِي , خَمْرَةَ وَيْلٍ .

أَيْنَ كُتُبُ الرَّحْمَةِ ؟ دَمِي يُكَابِدُ طَعْنَاتِ رَوْعَةٍ كَابِيَةٍ فِي الْهَاوِيَةِ , جُرْحٌ عَلَى شَفَا الْعُيُونِ : لِمَنِ الْمِلْحُ؟ وَكُحْلُ النَّارِ؟ أَقْرَأُ شَفْرَةَ هَمْسِ الشُّرُفَاتِ , مِنْ رَذَاذِ النُّورِ , يُوَسْوِسُ لِفَجْرِي , يُشِي لِشُبَّاكِ الْبَوْحِ بِالْعَلَامَاتِ , قَطَرَاتُ نَدًى تُضْمِرُ أَسْرَارَ النُّجُومِ , يَشْرَبُهَا الْقَدَاحُ , يُبِيحُهَا زَقْزَقَةٌ , وَشَهَقَاتٌ , وَوَهَجٌ , يَنْبَعِثُ الْبَهَاءُ فِيَّ , يَقُولُ جَسَدُ الْوَرْدِ , يَهْطُلُ التِّينُ , وَتَهْدِلُ الْعَنَادِلُ , فِي قَلْبِي بَرْدُ الزَّيْتُونِ , يَسْلَخُ الرَّاقِي , تَجْتَاحُ الرِّيحُ أَجْنِحَةَ الْفَرَاشِ , نَوَاعِمُ كَانَتْ تَبَارِيحُ أَشْجَانِي , قَنَادِيلُ صَبْرِي , أُغَادِرُ لَهْفَةَ حَيْرَتِي , أَسْقُطُ فِي جُبِّ الْهُيَامِ , بَارِدَةٌ دَهْشَةُ الْعَصَافِيرِ , دَافِئَةٌ رَوْعَةُ التِّينِ, قَاسٍ , رَاقَتْ عِطْرَك , جُرْحٌ تَبَتَّلَ , وَأَذَابَ يَاسَمِينُكِ ليبطش بوَقَارِي , والشَّوْقُ سَرَابٌ يُقِيمُ الْحَدَّ فِي بَادِيَةِ النَّشْوَةِ , عَلَى سُمْرَةِ الْعَطَشِ , بَارِعَ حُسْنُك فِي تَقْشِيرِ صَدَى نِدَائِي , وَنَتْفِ رُمُوشِ وُجْدِي , يَشْتُلُ نَوَائِبَ الْغِيَابِ فِي الْبَابِ .