25 أبريل، 2025 11:41 ص

حرب الكبار.. بين التنين والعم سام

حرب الكبار.. بين التنين والعم سام

في إحدى زوايا الكوكب، وتحديداً في زاوية ساخنة من خريطة العالم، حيث تُحشى الرمانة بالنفط، وتُطبخ السياسة على نار طائفية هادئة، تجلس منطقة تدعى الشرق الأوسط، تضع ساقاً على ساق، تحتسي الشاي بنكهة النعناع أو النفط الخام (بحسب المزاج)، وتقلب صفحات الصحف، تتابع نشرة الأخبار الاقتصادية كما تتابع المسلسلات التركية: مشدودة، مشوشة، ولا تفهم شيئاً، وإذا بعناوينها تهدر كصافرات الإنذار: تصعيد في الحرب التجارية بين الصين وأمريكا، فتتنهد المنطقة، وترفع حاجبيها، ثم تضحك ضحكة باهتة وتهمس لنفسها: وماذا بعد؟ هل سنُطلب للشهادة؟ أم نُستدعى كخبراء في اقتصاد الكباب والبطالة؟ ثم ما علاقتنا نحن؟ وهل نحن إلا خلفية مشوشة في هذه الصورة فائقة الدقة؟

نعم، إنها الحرب التي لا تُطلق فيها رصاصة، بل يُطلق فيها تغريدة من حساب البيت الأبيض واشنطن تقابلها فيديوهات على “ويبو” من بكين فتتساقط الأسهم كما يتساقط سعر الدينار أمام إشاعة عن حرب وينتج عن ذلك ارتفاع أسعار لا يشرحه حتى البنك الدولي، ففي هذه الحرب، لا يُقتل الجنود، بل تُقتل أحلام المستهلكين، ولا تُسفك فيها دماء، بل تُسفك فيها صفقات، وتُقصف فيها الأسواق بالبضائع، وتُحتل فيها العقول بالإعلانات الممولة، حرب بأسلحة دمار اقتصادي شامل: تعريفات جمركية، حظر تكنولوجي، و”تيك توك” يُمنع من التنفس في أمريكا، بينما “أبل” يتعثر في بكين كأنه جمل في سوق شعبي.

إنها الحرب التي لا يُستخدم فيها البارود، بل “باور بوينت” محشو بالرسوم البيانية والعقوبات الاقتصادية. حرب يتبادل فيها التنين والعم سام اللكمات التجارية بوجوه باسمة ونوايا مسمومة، حرب لا تُحرق المدن، بل تُحرق فواتير الشحن، وتفوح منها رائحة البلاستيك الإلكتروني والعطور المزيفة، فتُمنع شركة هواوي في الغرب، لتختنق الأسواق. يُمنع تيك توك في أمريكا، فيصاب المراهقون بالاكتئاب الجماعي. يُحاصر “آيفون” في الصين، فيبدأ الآيفون نفسه يشك في ولائه.

لكن مهلا.. من الذي علق في منتصف هذه الحرب؟ من الذي وقع بين المطرقة الصينية والسندان الأمريكي؟ إنها تلك المنطقة التي كانت تجلس في زاوية ساخنة من خريطة العالم والتي تدعى الشرق الأوسط، تتفرج على المشهد وكأنه مسلسل طويل: فيه إثارة، لكن نهايته غير مفهومة.

وبينما واشنطن وبكين تتبادلان اللكمات الاقتصادية، تجد دول المنطقة نفسها مضطرة أن تختار: هل تستورد أجهزة هواوي؟ أم تلتزم بالعقوبات الأمريكية؟ هل تشتري سيارات شيري الأرخص من التكتك؟ أم تتمسك بسيارة الجيب الأمريكية التي تكلف نصف ميزانية وزارة غير سيادية بحسب لجان المشتريات فيها؟

فتجلس دول المشرق مثل العراق وسوريا والأردن وحتى لبنان، على دكة المتفرجين، بيد تحمل قائمة استيراد، وبالأخرى كأس شاي مغلي بالأزمات، كل يوم يتغير المشهد، مرة يمنع الين الصيني والتومان، فيهرع السوق لتصريفها كما تُصرف الحكايات الرسمية، ومرة يُسمح بهما، فيعود المستوردون من الحدود وعلى وجوههم نفس التعب الذي تحمله كتب المناهج الوزارية، أما المواطن، ذلك الكائن الملحمي، فهو يعيش مغامرة من نوع خاص، يستفيق صباحاً ليجد أن هاتفه الصيني أصبح سلعة محرّمة، محاصرا كأنه عنصر معارض في مؤتمر اقتصادي أمريكي. وفي المساء، يُقال له: لا، لا، لم يكن الحظر حقيقياً، فقط ضغط نفسي، ليسمع أن أمريكا سمحت به مجددا، فيهرول للشراء، ثم يكتشف أن الشاحن صار يباع لوحده بسعر خرافي، لأن الشركات تعيد هيكلة التكاليف بسبب النزاع التجاري.

في دول الخليج، المشهد أكثر رقياً وفخامة، أو لنقل أكثر تصميماً داخلياً، فالإمارات تحاول أن تصبح سويسرا الحيادية لهذا النزاع: تستقبل الطرفين، تحتسي الشاي الأخضر مع الصين، وتشرب الكابتشينو مع أمريكاوتصافحها وهي تضحك لقصص الديمقراطية، أما السعودية، فمن جهتها تبحث إن كان يمكن تحويل هذه الحرب إلى فرصة، وتتساءل: هل يمكننا استخراج النفط من هذه الحرب؟ وإن لم نستخرج، فهل يمكننا على الأقل تصدير تصريح ناري عنها؟.. ثم تطلق مبادرة غامضة اسمها: “رؤية اقتصاد بلا ضرائب… لكن بشروط تجارية متقلبة.

أما في الكواليس فكانت هناك مفاجأة كبرى أتت من حيث لا يتوقع أحد، إذ لم تأتِ من البنتاغون، ولا من سور الصين العظيم، بل من صناع المحتوى الصينيين، أولئك الذين كنّا نظنهم مشغولين برقصة الباندا وتحديات الأكل الحار، فجأة يتحولون إلى صحفيين استقصائيين، يدخلون المصانع كما تدخل الجرذان مخازن الحبوب، ويصورون لنا الحقيقة المجردة، ويكشفون الكارثة: كل شيء تقريباً… صُنع في الصين، معظم البضائع الفاخرة التي نشتريها من ماركات العالم الأول تُصنع في الصين، الملابس الفاخرة، الحقائب التي تبيعها ماركات أوروبية بعينين زرقاوين ولهجة فرنسية، الساعات التي تُقال عنها إنها صُنعت يدوياً في جبال سويسرا على ضوء القمر، كلها صُنعت في مصنع صيني في مدينة لا يعرف أحد موقعها على الخريطة، يعمل فيه عمّال لا يعرفون معنى اسم الماركة، لكنهم يعرفون تماماً أن القميص الذي صنعوه اليوم سيُباع لاحقاً بسعر يعادل إيجار شقتهم لستة أشهر.

ولكن الفضيحة ليست في الصناعة نفسها، وليست الصدمة في كون التنين هو العامل المتعب، بل في الفارق الصادم بين كلفة الإنتاج وسعر البيع، قميص يكلف 5 دولارات، يُباع في نيويورك بـ100 دولار.. ساعة تكلف 50 دولاراً تُعرض في ميلانو بـ2000 دولار، مع عبارة: مصنوعة بحرفية أوروبية، وإعلان فيه رجل يركض في جبال الألب وكأنه فقد عقله أو جيبه، والحقيقة؟ أنها صُنعت في مدينة صينية اسمها لا يمكن نطقه بدون ممارسة تاي تشي أسبوعية.

وهنا ينهض المواطن في دول المشرق من سباته، يصفق كفاً بكف، ويسأل: إذا كانت البضاعة تُصنع في الصين وتُباع في الغرب، لماذا لا نشتريها من المصنع مباشرة؟ لماذا نمنح هذه الشركات الغربية فرصة سرقتنا بخفة راقصة باليه؟.. لكن الجواب يأتي سريعاً: لأنك تشتري الحلم، يا عزيزي، لا القميص، بل تشتري ماركة، وواجهة متجر، وإعلاناً صوّره عارض أزياء على متن يخت لم يركبه في حياته، تشتري وهماً، بنكهة الرأسمالية المغلفة ببلاستيك معاد تدويره، أما الحكومات في المنطقة، فهي تحاول أن توازن بين الرغبة في استيراد الأرخص، والخوف من غضب العم سام الذي يراقب كل صفقة كما يراقب شرطي مدرسة حقيبة طالب مشاغب.

وهكذا، يستمر العرض، بين تنين يصنع كل شيء، وعم سام يبيعه بأربعة أضعاف، ومواطن يتفرج من بعيد، فهل الحرب التجارية هي مجرد مسرحية اقتصادية طويلة الأمد؟ أم أن هناك فصلاً ختامياً ننتظره؟ لا أحد يعلم… سوى المصانع الصينية، التي ما زالت تعمل بصمت، وتبتسم كلما رفعت شركة غربية سعر منتجٍ صُنع في أحشائها، وإلى أن تنتهي هذه الحرب، ستبقى منطقة الشرق الأوسط تراقب، تستنشق رائحة البضائع، وتعيد حساباتها، فربما، في أحد الأيام، تكتشف أن الحياد الذكي هو أفضل سلاح في زمن الحرب الاقتصادية، أو على الأقل، أرخص من شراء آيفون جديد بدون شاحن، فالخبراء يقولون إن هذه الحرب ستؤثر على سلاسل الإمداد، التجارة الإلكترونية، وحتى على أسعار المانغا اليابانية، لكن المواطن العادي لا يهمه كل ذلك، ما يهمه أن سعر الرز لا يزيد، وأن الإنترنت يبقى سريعا بما يكفي ليشاهد المباراة دون أن يعلق في الدقيقة 89.

أحدث المقالات

أحدث المقالات