في أعقاب وفاة البابا فرنسيس الاثنين 21 نيسان 2025 فقد تحولت الأنظار نحو الفاتيكان لمتابعة عملية اختيار البابا الجديد، وفي حدث يعد من أبرز اللحظات التاريخية المفصلية للكنيسة الكاثوليكية، وضمن قائمة المرشحين المحتملين، برز اسم الكاردينال “لويس روفائيل الأول ساكو” بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق والعالم، كمرشح وحيد من الشرق الأوسط، وما يثير تساؤلات حول التحديات والعقبات الخفية والعلنية التي قد تواجهه في طريق سعيه لتولي الكرسي الرسولي، وإن كان ترشحه فعليًا ما يزال قائمًا داخل اروقة الفاتيكان . ففي حين أدخلت وفاة البابا الكنيسة الكاثوليكية في فترة حداد، ولكنّها أطلقت أيضاً في الوقت نفسه واللحظة الوفاة السباق المحموم لاختيار خليفته. وبما انه يتم حالياً التداول بـ 15 اسماً لأبرز الكرادلة المرشّحين للخلافة، مع العلم بأن نتيجة تصويت المجمع الانتخابي لا يمكن توقّعها حتى من داخل المجمع الانتخابي أنفسهم , وبالتالي قد يمكن بسهولة أن يأتي البابا المقبل من خارج هذه القائمة، صحيح بان التكهن باسم البابا القادم يبقى محفوف بالمخاطر والالغاز ، كما يُقال في الأوساط الفاتيكانية , وقد يفاجئ معها الكرادلة الجميع باختيار مرشح غير متوقع ولم يكن في صورة اقوى المرشحين، وكما حدث مع انتخاب البابا فرنسيس في عام 2013.
ولكنه يبقى املنا صاحب النيافة والقداسة “روفائيل ساكو” والذي ولد في 4 حزيران 1948 في مدينة زاخو شمال العراق، وتسلّم منصب بطريرك الكنيسة الكلدانية في عام 2013، ليصبح معها رمزًا للصمود في بلد مزقته الصراعات الدينية والطائفية والسياسية. حيث حصل على دكتوراه في اللاهوت من الجامعة البابوية في روما، وماجستير في الفقه الإسلامي، ودكتوراه أخرى من جامعة السوربون، مما يعكس قدرته على الجمع بين الفكر المسيحي والتفاهم مع الثقافة الإسلامية. كما حاز على أوسمة دولية مرموقة، مثل وسام “باكس كريستي” ووسام القديس إسطيفان لحقوق الإنسان، تقديرًا لجهوده في نشر السلام والتسامح وبعبارة أخرى أكثر وضوحآ وتجليآ أي أنه أصبح رجل التحديات في زمن الأزمات ومنذ تعيينه كاردينالًا في 2018 بقرار من البابا فرنسيس، حيث أظهر حضورًا دوليًا قويًا، خصوصًا من خلال دوره المشهود له والمؤثر في تنظيم زيارة البابا فرنسيس التاريخية للعراق، والتي جرت في الفترة من 5 إلى 8 أذار 2021 هذه الزيارة لم تكن مجرد حدث ديني عابر ، بل كانت تحمل رسالة عالمية للأمل والوحدة، عززت مكانة العراق كأرض للتعايش الحضاري، وأبرزت دور شخصيات مثل الكاردينال روفائيل في بناء الجسور بين مختلف الثقافات والأديان وكانت حدثًا تاريخيًا بمعناه الديني والروحي، إذ كانت الأولى من نوعها التي يقوم بها بابا الفاتيكان إلى العراق، مهد الحضارات وأرض الأنبياء والرسل . حيث جاءت الزيارة في ظل ظروف استثنائية، بما في ذلك جائحة كورونا، التحديات الأمنية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العراق وما يزال. كما أنها حملت رسائل رمزية ودينية عميقة تهدف إلى تعزيز السلام والحوار بين مختلف الأديان التي حوتها أرض الرافدين مهد البشرية، ومشاركته بشكل فعال في تنظيم الزيارة، ومما عزز معها دوره كشخصية دينية بارزة. ولكن هذا التصور والحضور القوي يواجه معها تحديات داخلية وخارجية قد تعيق فرصة في أن يصبح أول بابا من الشرق الأوسط في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. نتطرق لها ومنها على سبيل المثال وليس الحصر وإن كان بعضها بنظرنا كان مفتعلا لتشويه صورته الدينية أمام اتباعه لأنه وقف بوجه مشروع تهجير المسيحيين ملح الأرض وعبق التاريخ ومن خلال سياسة الترهيب والترغيب والاستيلاء على أرضهم التاريخية والتي اشتركت فيها قوى سياسية وحزبية مؤثرة في الحكومة العراقية ومن على الهرم الحكومي ومنها الآتي:
1: التحديات الداخلية والخلافات السياسية والطائفية، حيث واجه، خصوصًا مع حركة “بابليون” المسيحية بقيادة ريان الكلداني، التي تتهمه بتجاوز دوره الديني والتدخل في السياسة. وفي المقابل، اتهم الكاردينال روفائيل الحركة بمحاولة الاستيلاء على ممتلكات الكنيسة و تهميش المسيحيين. هذا الصراع تصاعد في 2023، حين ألغى الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد مرسومًا جمهوريًا يعترف بسلطته على أوقاف الكنيسة، مما دفع البطريرك لمغادرة بغداد إلى إقليم كردستان احتجاجًا على هذا الإجراء المجحف بحقه وللكنيسة. وهذه الخلافات تعكس بصورة وبأخرى تعقيدات المشهد السياسي العراقي، حيث يمكن أن تُستخدم مثل هذه الاتهامات لتشويه سمعته داخل الأوساط الكاثوليكية العالمية، خصوصًا أن الفاتيكان يفضل عادةً مرشحين بعيدين عن الجدل السياسي.
2: تعرضه لحملات تشويه ممنهجة ومفتعلة، تضمنت اتهامات باطلة مثل تشجيع المثلية أو بيع ممتلكات الكنيسة، وهي اتهامات نفاها بشدة واستنكرها مسيحيون ومسلمون على حد سواء. وهذه الحملات قد تؤثر على صورته أمام مجمع الكرادلة، الذي يتطلب مرشحًا يتمتع بتوافق واسع وسمعة نظيفة.
3: وعلى الرغم من ترشيحه المحتمل، لكن تبرز التحديات العالمية داخل الكنيسة والمنافسة مع كرادلة آخرين بارزين فانه قد يُعتبر ساكو خارج دائرة المرشحين الأوفر حظًا، مثل الكاردينال لويس أنطونيو تاغلي من الفلبين، أو الكاردينال ماتيو زوبي من إيطاليا، أو الكاردينال بيتر إردو من المجر. هؤلاء الكرادلة يتمتعون بحضور قوي في الفاتيكان وبدعم من تيارات ليبرالية أو محافظة داخل الكنيسة، بينما يبقى ساكو شخصية أقل شهرة نسبيًا في الأوساط الغربية.
4: الكنيسة الكاثوليكية تعيش انقسامات بين التيار الليبرالي الذي يدعم إصلاحات البابا فرنسيس، والتيار المحافظ الذي يسعى للعودة إلى تقاليد أكثر صرامة. ولكن الكاردينال روفائيل، بمواقفه المعتدلة وتركيزه على الحوار بين الأديان، قد لا يحظى بدعم التيار المحافظ، بينما قد يُنظر إليه من الليبراليين كمرشح غير كافٍ لمواصلة إرث فرنسيس الإصلاحي.
5: كذلك لدينا العامل الجغرافي والثقافي حيث يعلب دورا فعال في زيادة نقاط الترشيح وتاريخيًا، وكان معظم البابوات من أوروبا، مع استثناءات قليلة مثل البابا فرنسيس من الأرجنتين. اختيار بابا من الشرق الأوسط سيكون سابقة غير مسبوقة، وقد يواجه مقاومة ضمنية من بعض الكرادلة الذين يفضلون مرشحًا من خلفية ثقافية أقرب إلى المركز الأوروبي للكنيسة. إضافة إلى ذلك، قد تثير جذوره الشرقية مخاوف حول قدرته على إدارة التحديات العالمية للكنيسة في سياق النسق والمفهوم الغربي.
6: وقد يكون تأثير العامل الأبرز عن البعد عن تولي منصب الكرسي الرسولي ونفيه للترشح ومحاولة لتهدئة الجدل؟ ففي 23 نيسان 2025، نفى الكاردينال روفائيل الأنباء المتداولة حول ترشيحه لمنصب البابا، ومؤكدًا أن آلية اختيار البابا لا تسمح بالترشح الذاتي أو الترويج له. وهذا النفي قد يكون محاولة لتجنب الجدل أو الحفاظ على تركيزه على قيادة الكنيسة الكلدانية في ظل التحديات المحلية. ومع هذا التصريح الواضح من قبله ولكنه لا ينفي أن اسمه مطروح ضمن النقاشات داخل الفاتيكان.
7: على الرغم من التحديات والعقبات في طريق ترشيحه، فانه حظي بدعم بارز من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي أشاد بحضوره المحلي والدولي ودوره في نشر السلام. هذا الدعم قد يعزز صورته كمرشح يمثل التنوع والحوار بين الأديان، وهي قيم كان البابا فرنسيس يروج لها. كما أن دوره في تعزيز الوحدة بين المسيحيين في العراق والحوار مع المسلمين يمنحه ميزة فريدة في عالم يعاني من الاستقطاب.
في نهاية المطاف، صحيح من الصعب التنبؤ بشكل قاطع بمن سيكون البابا القادم للفاتيكان، لأن عملية اختيار البابا في المجمع (الكونكلاف) تعتمد على تصويت سري للكرادلة، وتتأثر بعوامل معقدة مثل التوازنات السياسية داخل الكنيسة، والتوجهات الأيديولوجية، والظروف العالمية. ستكون عملية اختيار البابا الجديد نتيجة توافق معقد بين الكرادلة، وتعتمد على رؤيتهم لمستقبل الكنيسة. وكذلك سواء أصبح الكاردينال روفائيل بابا أم لا، فإن ترشيحه المحتمل بحد ذاته يعد شهادة على دوره كصوت مؤثر في الكنيسة الكاثوليكية العالمية، ورمزًا للصمود في وجه التحديات , ومع ذلك يبرز لنا اسم الكاردينال “بيترو بارولين” أمين سر دولة الفاتيكان منذ 2013، مما يجعله ثاني أقوى شخصية في الفاتيكان بعد البابا، ولديه خبرة دبلوماسية واسعة وعلاقات قوية مع الكرادلة. وفي الوقت نفسه يجمع بين الخبرة الإدارية، والسمعة المعتدلة، والقبول الواسع بين الكرادلة، وهي عوامل غالبًا ما تكون حاسمة في اختيار البابا. وكما أن غياب مرشح واضح الأوفر حظًا في الوقت الحالي يعزز فرصه كثيرا كمرشح توافقي وسطيآ مثل الكاردينال بارولين، قادرًا في الوقت نفسه على التوفيق بين التيار الليبرالي (الذي يدعم إصلاحات البابا فرنسيس) والتيار المحافظ، مما يجعله خيارًا توافقيًا محتملاً.بالإضافة الى الخبرة الدولية المتراكمة لديه ودوره المتميز في التفاوض مع دول مثل الصين والشرق الأوسط مما يعزز مكانته كمرشح يمكنه التعامل مع معظم التحديات العالمية الحالي أو المستجدة.
وأخيرآ وليس أخرآ , ونحن نواكب هذه المرحلة المفصلية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وبدورنا المتواضع في دعم هذا الترشيح حتى ولو بالكلمة , فلا يسعنا إلا أن نعبر عن أملنا العميق بأن ترى فكرة انتخاب الكاردينال الكلداني روفائيل تتحقق على ارض الواقع، وأن يتصاعد الدخان الأبيض من مدخنة كنيسة السيستين في الفاتيكان ليبشر العالم بأن لدينا “بابا” قد تحققت. وأن يظهر لنا من على شرفة ساحة القديس بطرس، البابا روفائيل، ممثلًا دينيآ وروحيآ للشرق الاوسط المكلوم والجريح، ورسولًا للسلام والعدالة من أرض طالما كانت مهدًا للأنبياء والرسل , وإن هذا الطموح المشروع الذي نتمناه ، وعلى الرغم كونه محفوفًا بالتحديات، فانه ليس مجرد حلم رومانسي لنا أو حتى رؤية تراودنا في احلامنا ، بل هو انعكاس لحاجة حقيقية إلى صوتٍ قادم من قلب المعاناة الانسانية، يحمل في طياته خبرة العيش وسط ركام الأزمات، والتشبث بالإيمان رغم الاضطهاد، ليجسد معها وفي شخصه روح التعددية التي يفتقر إليها العالم المعاصر. الكاردينال روفائيل، خلفيته الأكاديمية الرصينة، وتجربته الراعوية وسط أجواء من العنف السياسي والديني، ورصيده من الاحترام داخل الكنيسة وخارجها، يمثل بارقة أمل في قدرة الكنيسة على التجديد والانفتاح على الأطراف المنسية.ورغم العقبات السياسية الداخلية، ومحاولات التشويه، والتجاذبات الأيديولوجية داخل المؤسسة الكنسية، فإن هذا الترشيح يحمل لنا رمزية كبرى: أن القيادة الروحية الأسمى يمكن أن تنبع من الشرق، من أرض الشهادة والصمود، حيث ما زال الإيمان يولد من رحم المعاناة والألم.