22 أبريل، 2025 10:05 ص

ثنائية الرؤى الشعرية بين ديلان توماس وفيديريكو غارسيا لوركا: قراءة في التشابه والتقاطع

ثنائية الرؤى الشعرية بين ديلان توماس وفيديريكو غارسيا لوركا: قراءة في التشابه والتقاطع

مقدمة
مافتيءَ الشعراء يعيشون مرة بصحوة الأجساد القوية والأذهان المتوقدة , ومرة بهيمنة الأسقام لما تكون في اغلبها مستبدة , على خيط رفيع يصل بين الواقع والخيال , فينتقلون من هذا الى ذاك في كل لحظة من لحظات حياتهم , كأي فرد ينتقل في دأبه على الحياة من النور الى الظل , ولكن من ناحية هواجس الخواطر Premonition of thought فالأمر لديهم يكون مختلفآ مما لدى عامة الناس ,
إذ انها ليست كما هي عند الآخرين , فقد تكون جنونية أحيانآ ولكنها ملهمة , فيصوغونها بالكتابة ويطلقونها مثلما تسللت الى الذهن قصائدآ او نصوصآ شعرية ليقع في شرك تأويلها , عندئذ , القاريء الناقد الذي يكون , على الأغلب , بعيد عن اقتناص القصد الذي يبتغيه الشاعر فيعمد الى التساؤل مع نفسه :
هل كنت اعيش خارج الوقت اثناء تلك اللحظة الشعرية التي انجبت ذلك النص الشعري ؟! أم لم اكن منتميآ الى واقع صاحب التأويل اثناء لحظة الكتابة ؟! هنا يمكننا القول ان الشاعر كان يعيش في زمن الخيال , وهو زمن يقع خارج ضوابط الوقت الواقعي الخاص بالقاريء الناقد ,
والقاريء الناقد , بالطبع , لا ينتمي اليه , لأن الشاعر نفسه كان كالطيف العابر اليه , أما الناس فنصفهم يرى في خاطره ان الشعراء هم غلة ادبية انجبتها الدراسة فضلآ عن تأثيرات التراث والآداب والتجارب الإنسانية المكتسبة عليهم , لذلك هم ينهلون من التراث ومن مختلف الآداب طاقة الكتابة , أما النصف الآخر من الناس يرى انهم مصابيحآ طباقآ ,
صنعت والهِمت بالشعر بقدرة ورعاية خالق لتضيء بالقيم والأخلاق دروب الحياة للإنسان قبل دخوله الى ظلام الموت , بل وزاد عليهم هذا النصف من الناس بالوصف انهم قوارير من عسل اللغات كلما ينهل منها يعود اليها ثانية , وانهم حليّ الأمجاد التي لم ولن ينطفيء نورها , أو يموت سطوعها ,
لذلك تزيّنت بهم قصور الملوك من قبل , وتوهّجت الخدور بعطر مشاعرهم , شيبآ وشبابا , وهم ينظمون شعرآ لبهجة الحياة تحت انوار الشمس ويكيلونه بأقداح العواطف دمعآ بالأحزان وايام المآسي والأفراح , فترى في شعر العديد منهم هناك تشابه بالرؤية الشعرية التي تتناول ثنائيات ترتكز أفكارها على ;
النظر الى الجمال لحظة الغروب والى الحياة والموت والطفولة والشيخوخة والخير والشر والنور والظلام , او تقود تارة الى الغناء رغم القيد , والغناء رغم الجرح تارة اخرى , فتتشكل في قصائدهم إيماءات تنبّه القاريء الناقد الى العلاقة الشعرية المتمحورة فيما بينهم من ناحية , والى دراسة هذه المساحة الشعرية التي تدفع الى تسليط الضوء على مدى توازن تلك الأفكار التي تحدثوا عنها سواء بالأفراح أو الأحزان , والى درجة الشبه والتقاطع في الإعلان عنها بين سطور ابياتهم الشعرية من ناحية اخرى , إذ ان جدوى النقد الشعري في الأدب كما هو معروف يرتكز على الحديث عن الشعراء في اطار من الشؤون العامة بحسب رأي الدكتور احسان عباس من ناحية , وعلى عدم تهميش النص الشعري بالقراءة السطحية لذاته من ناحية اخرى , بل ينبغي ان تستنطق افكار كلماته لفهم طبيعة المنابع التي فاض منها الشعر ,
بشرط الوعي الأدبي الرصين ليكون درسآ لطلابه , إذ وراء كل نص مكتوب بغض النظر عن الشعر , هناك افكار او فكرة تتوارى تحت ظلال الكلمات , لاينبغي ان تهمل من دون تسليط الضوء عليها , ليتمكن القاريء من إضاءة مدارك الفهم لديه ليتمرّس في مهارة تقييم النص او تقويمه او تصنيفه ,
وبهذا الدور كأنه يدفع القاريء الى البحث العميق الذي يتجاوز لغة الظاهر المباشر بالنص ليؤسس بأنطولوجيا الشعر علاقته مع العالم , أما قراءة النص والتعليق على جمال مفرداته فحسب , فهذا يعني انه يهتم بلجة اللفظ والنظم الخارجي ويترك لبَّه كما يترك المطر في لبِّ الغمام واللؤلؤ النضر في قرارة البحر .
والثنائية الشعرية التي كتب بها جيل بدر شاكر السياب والملائكة وسعدي يوسف وغيرهم بالأوزان العربية التقليدية , لاشك , ليست كالمثنوية الشعرية التي تتشابه هذه المفردة تقريبآ بالجرس الصوتي مع الأولى ,
إذ في الثانية يتساوى شطر البيت الشعري وعجزه بقافية واحدة , وابرز من كتب بهذا الأسلوب من الشعراء العرب هو بشار بن برد وابو العتاهية , ومن الشعراء الإيرانيين هو الشاعر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي القائل :
اقتلوني اقتلوني ياتقاة … إنَّ في قتلي حياةً في حياة .
ولكن الثنائية الشعرية التي كتب بها شعراء اوربا وامريكا تتشابه بأمر واحد وتختلف بآخر , التشابه كان مع المثنوية الشعرية الصوفية من حيث القافية في الشطر والعجز فحسب , اما الأمر الآخر فلا توجد للثنائية الشعرية الغربية اوزان شعرية مفروضة او محددة , ولكن البعض من الشعراء اختاروا اوزانآ موسيقية بسيطة ليعكسوا بها المعنى بما يناسب مواضيعها كالغروب والموت والحياة التي تحتاج الى الإيقاع الهاديء مثل ;
رباعي التفاعيل Iambic tetrameter, و خماسي التفاعيل Iambic pentameter , ومن امثلة التشابه الغربي مع جلال الدين الرومي , نجد الشاعر الكسندر بوب في قصيدة “ مقالة عن الإنسان “ Essay on Man يقول فيها :
Hope springs eternal
In the human breast:
Man never is, but
Always to be blest.

الأمل ينبع ابديآ
في صدر الإنسان:
الإنسان لن يكون ابدآ , سوى
ينتظر ان يكون سعيدآ ( قصيدة مقالة عن الإنسان – الكسندر بوب )
بهذه القصيدة , التي ظهرت فيها قافية Breast و Blest لابد الإشارة الى ان التشابه بين المثنوية الشعرية العربية عند الشاعر بشار بن برد الذي يقول :
فعِش واحدآ أو صِلْ اخاك فإنهُ .. مقارفُ ذنبٍ ومجانبهُ
وعند الشاعر ابو العتاهية في قوله : لا تأمننَّ الموت في طرفٍ ولا نفسِ .. إذا تسترتَ بالحجابِ وبالدرسِ ,
نستدل من ذلك ان مثنوية القافية الشعرية قد انتقلت الى اوربا على يد العرب منذ انبثاق الحضارة الأندلسية , والى إيران على يد شعراء العراق ومنهم بشار بن برد وابو العتاهية .
يحدثنا التأريخ عن الكثير من الشعراء الذين كانوا في غبطتهم بين الملوك والأمراء جالسين , وثغورهم تتزيّن بأجمل القطع الشعرية , وفي عفاف أحزانهم وجلالها , كانوا ينعزلون مترنمين وآسفين وهم يملأون اركان العيون قيح الدمع ,
لاجئين الى سجايا الشعر طلبآ للنجدة , فيوفّون لأحبائهم بطيبة خاطر دون ان يصعّرون الخدود لهم او يعرضون عن سفه الحياة الذي يتعرضون له , والشعراء جميعهم في محبة الكون والإنسان متشابهون .
تحت ضياء هذه المصابيح سعينا الى كتابة مقالتنا لتختص بشاعرين كبيرين ومتشابهين , في رأينا , ببعض الجوانب المتمظهرة التي توحّد شعرهم , لأنهم في ميزان الشهرة قد بلغا الذروة في استلهامهم من تجارب الحياة والإنسانية وجغرافية الطبيعة بكل افرازاتها الموسيقية ,
الدروس التي جعلوها , احيانآ , رسائلآ في إطار قصائد سردية او وصفية موجهة للناس ولأنفسهم , واغان عميقة بالعاطفة والصور الشعرية يعبّرون بها عن رؤيتهم للعالم في جميع نزواته احيانآ اخرى .
في البعض من هذه القصائد هناك تشابه بالنزعة الرومانسية والمأساوية بشكل خافت احيانآ , واحيانآ بأشد السطوع فضلآ عن الموضوعات الفلسفية والذاتية الأخرى , وخاصة في تعزية الإنسان من خلال امتزاج الحب مع الغضب والرفض ورضا النفس بشكل بسيط ولكن بعمق في رمزيته من ناحية , وبالتعبير عن قسوة الخذلان والفشل والخيبة بكلمات ذات دلالات عاطفية قوية من ناحية اخرى.
كل هذه الخصائص الشعرية , لاشك , وقف ورائها ارثآ ثقافيآ أصيلآ لشعوبهم , ومؤثرآ في سير الحياة ودورة الزمن , فضلآ عن العديد من الخصائص السياسية , التي لايتسع لها هذا الحيّز الضيّق من المقالة ,
علمآ ان جميع قصائدهم كانت موجهة بأسلوب نقدي وإنساني رصين عن الحياة الإجتماعية والثقافية في بريطانيا واسبانيا , وعن احوال النفس البشرية في قبولها للتضحية والقدر جراء التحديات التي افرزها ذلك الإرث الضخم لكلا الشاعرين :
الشاعر الأنكليزي ديلان توماس
في اختيارنا لهذا الشاعر الحداثي الشاب وصاحب اشهر قصيدة بالعالم التي يحلو للنقاد ان يسمونها قصيدة ” اغضب ضد انطفاء النور ” لأنه كان الأكثر تأثرآ بالشعر الرمزي الأوربي من ناحية وبالمسيحية والتجريب اللغوي من ناحية اخرى , وقد رأينا ان لا ننظر اليه بالوصف كما توصف الملكية او العقار المعروض للبيع ,
وكيف اعتلى الأرض بهذه البنية الهندسية , بل ننظر اليه كشاعرأولآ , لأنه بالشعر تصيَّد اسباب البقاء في صفحات الأدب خالدآ , كغيره من الشعراء من امثال الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا أو الشعراء راينر ريلكة وجورج اليوت , وشيكسبير وجون درايدن ,
لذا ليس عيبآ ان نتحدث عن المُلك الشعري غير المهدّم الذي انتقل الينا عبر الأجيال , من دون وصف اجسام الشعراء كما توصف الحصون والقلاع الأثرية , إذ لا داع الى وصف نواح كثيرة عنهم بمعلومات استقيناها من الصحف منذ امد بعيد .
ومن غير المؤكد انها كانت على درجة من الثقة عندما صدقناها في حينها . ومن غير المعقول ان نصفهم بها الآن بالإعتماد على ذاكرتنا الذابلة , من دون الإستعانة بكتب المذكرات المكتوبة بخط ايديهم .
لذلك , ستكون مقالتنا واضحة عما كتبوا وما كُتب عنهم وتدوّن بالشعر , فالشاعر الأنكليزي ديلان توماس صِيغ بناؤه اصيلآ وجامحآ بتميّز وحداثة , صنعت له شهرة وشعبية كبيرة في عالم الأدب , إذ لم يبلغها احد أو بلغ , على الأقل , الطريقة التي كتب بها الشعر الحديث في بريطانيا ,
وخاصة في مجال تعامله مع الزمن كتهديد في ضوء مراحل ذبول وغروب التكوين الجسدي , ولكن ربما لدى العرب من هو مثله او نظيره , والمقصود هنا الشاعر العربي الكبير ادونيس الذي تساوى بطريقة كتابة الشعر مع ديلان توماس في جوانب عديدة منها ;
التلاعب الصوتي والإيقاعي المقترن بالفضاءات الرمزية العميقة والشطحات الصوفية وفي اشتراع العبارات الشعرية الخاصة بالمتشابه والنظير , ويخال للبعض ان ادونيس في تأثره كثيرآ بطريقة ديلان توماس الكثيفة بالغموض , قد نال تهمة الجموح نفسها بسبب تلك الجوانب التي انتهجها في كتابة الشعر على طريقة ديلان توماس .
أما تأثر الشاعر ديلان توماس بالشاعر لوركا وإنحيازه الى اسلوبه وشاعريته بالصور والإيقاع الموسيقي والكتابة عن الموت والحياة والوجود , فليس لأنه مقلدآ للشاعر لوركا , بل اشترك معه في شعريته بأسلوبه الويلزي والصوفي الحديث , وهذا فحسب يدل على تأثره وإعجابه بالشاعر لوركا ,
لذلك سخَّر قلمه الشعري في كتابة نصوص ادبية عبّرت عن ذلك التأثير ومنها مقالته ” في ذكرى فيديريكو غارثيا لوركا ” التي نشرها بعد اغتياله , إذ يقول فيها : ” ” The only writer I”ve ever been able to call my master انه الكاتب الوحيد الذي استطعت ان اسميه استاذي .
اما حقيقة ذلك التأثر والإعجاب , فلاشك , قد اعتُمد سابقآ بالنقد الأدبي , وسيُعتمد عليه لاحقآ إذا توسّع النقد في تحليل نصوصة الشعرية من قبل نخبة من النقاد الإختصاص بالأدب المقارن من اهل الخبرة في البناء الشعري الشامل وخصائصة لبيان الدقة في ذلك . اما عن سمعته الروائية والدرامية الإذاعية والمسرحية والقصصية ,
فتلك أصناف أدبية تحتاج الى قراءات واسعة قبل كتابة اي مقالة تفكيكية خاصة بها , لما تتميّز به من سمات ادبية اخرى مليئة بالمضامين الدرامية الساخرة والرقيقة وقوة المخيّلة في كتابة الحوارات الخاصة بها .

الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا
في معرض اشادته , قال الشاعر ديلان توماس عن لوركا : There is in Lorca’s poetry the stillness of death and the violence of birth , the earth singing and the wounds open ” أن في شعره سكون الموت وعنف الولادة , وفي شعره الأرض تغني والجراح مفتوحة ” , والعالم الميت يُبعث من جديد .
اما النقاد فقالوا عن جانب بالشعر ; انه كتلة من المشاعر الرقيقة والمسكونة في ينابيع العاطفة المتدفقة , وفي شعره يكتظ حب التراث العربي الأندلسي , ولأجله اخترناه ليكون قرينآ للشاعر ديلان توماس على طاولة نقد الشعر , لأصالة وبراعة شعره على الرغم من الواقع الذي عاش فيه تحت ضغط الإرهاب الفكري وانعدام الحريات وتذمر الناس من الأوضاع السياسية وخاصة تحت حكم الجنرال فراكو وميليشياته الفرانكوية التي قتلته بشكل عبثي وبدم بارد ,
وقد اغفلنا , ايضآ , عن مقالتنا وصف هيكله البشري والبايولوجي , أو كيف استوى شعره بين صنوف الشعراء من امراء واجناد , وارتاد ظلاله الغرباء والأقرباء والصعاليك من غير ان يقلعوا عن مناهله , لإتيان ما يضاهيه بالبلاغة والبيان ببغية البلوغ الى المجد والشهرة اللتين بلغهما , ولكن كتبنا عن المكان الذي كتب فيه رسائلة الشعرية وبأي اسلوب شعري كان لديه الأكثر افضلية ,
والسبب في ذلك ان جانب الثقافة الأندلسية – العربية والغجرية الظاهرة في شعره , التي تجذّرت بشكل عميق فيه بأبعاد تراثية وروحية اسبانية , هي التي استحوذت على اهتمامنا لكون الشاعر كان يحرص على ان يتعامل مع الزمن برؤيا صوفية فيضع الشعر امام مواطنيه وخاصة امام الصعاليك الغجر ليتلقفونه على الفور لغرض الإستعانة به على مصاعب الحياة ,
فيتغنون به ويمرحون به في الأعراس والأفراح الشعبية , أما في مرثياته الحزينة فكانوا يستخلصون منها الأقوال والأمثال , والشاعر الشاب لايعلم انه بذلك العمق الشعري قد صنع من قصائده تراثآ شعبيآ خالدآ لإسبانيا , مستوحيآ سماته ومسرحياته من التراث العربي الأندلسي المسلم .
فهو لايحتاج , إذن , لوصف هيكله الآدمي , كما اسلفنا , بل يحتاج من النقاد ان يدرسوا قرابته الشعرية مع الشعراء وبالأخص الشاعر ديلان توماس الذي يشترك معه بالأسطورة والموت المحتوم واضطرابات النفس ومعاناة البشرية , عدا كونه يشبه بالكتابة في مجال المسرح الشاعر الكبير وليم شيكسبير ,
لكن مع ديلان توماس , فقد اشترك معه بالغنائية التي كتبها في قصائدة بدفق لغوي وموسيقى داخلية ومشاعر إنسانية عميقة , لذا فهو يحتاج الى دراسة التشابه والتقاطعات بصيغ القصائد المختلفة في جانب الأفكار مع ديلان توماس وخاصة في جوانب الرمزية والموت وثنائية ” رهبة الفناء بجمال اللون والضوء عند الغروب” .
في قصيدته ” غزالة الموت المظلم ” Gacela de la Muerte Oscura وهي من القصائد المستوحاة من اسلوب كتابة القصائد العربية الموثقة في ديوان تماريت* التي ينعكس فيها صراعآ داخليآ بين الرغبة في الحب والأمل المفقود والخوف من الموت من ناحية , وبين النور والظلام من ناحية اخرى ,
رسم هذا الصراع بتعبير عاطفي عن الألم كتجربة وجودية تتسم بالخسارة من خلال استخدام الغزالة والقلب المكفّن كرمز , فضلآ عن صور الطبيعة مثل ” حلم التفاح ” و ” حلم الطفل ” التي تلمّح الى وجود الأمل والفرح امام التهديد بمعاناة الإنسان وقوة الموت الذي يتدخل بالحياة عندما يحوّل هذا الأمل الى كآبة :
Quiero dormir el sueño de las manzanas
alejarme del tumult de los cementerios.
Quiero dormir el sueño de aquel niño
que quería cortarse el corazón en alta mar.
اريدُ أن أنام حلم التفاح
أبتعد عن حشد القبور
أريد أن أنام حلم الطفل
الذي أراد قطع قلبه في اعالي البحار

Quiero dormir un rato,
un rato , un minuto, un siglo;
pero que todos sepan que no he muerto;
que haya un establo de oro en mis labios;
que soy un pequeño amigo del viento Oeste;
que soy la sombra inmensa de mis lágrimas.

أريد أن أنام لبعض الوقت
بعض الوقت , دقيقة , قرن ,
ولكن ليعلم الجميع أنني لم أمت ,
ليكن أسطبل الذهب على شفتي
أنني صديق صغير للريح الغربية ,
أنني الظل الهائل لدموعي ( قصيدة غزالة الموت المظلم- لوركا )

والصراع هو , بالطبع , صراع الإنسان بين حتمية الموت المرتبط بعقلانية العاطفة البشرية الرافضة وليس بعقلانية ” الأنا الواعية ” للإنسان , وبين الهروب من الواقع المعتم والمحزن الذي تمثل في حزن بحجم الظل في معاناته الداخلية مقارنة بالدمع الذي يذرفه , وحالة الصفاء والإسترخاء والراحة عند الإرتماء في حضن الريح والشعور بالحياة التي يحتاجها الإنسان .
إذ ان العقلانية العاطفية في نطاق الأسى والغضب ترفض التسليم للموت بسهولة , ولكن هذا مجرد وهم لديها , لأنها لاترفض حتمية غلبة الموت كونه امرآ محسومآ ولافرار منه , وهذه هي رسالة عن اصرار الإنسان على الرغبة بالحياة رغم حتمية الموت , وقد اطلقها الشاعر لبني البشر للإقتداء بها في مقاومة التحديات مهما كانت مهلكة , وهي بالطبع لا تتطابق مع رسائل ديلان توماس في تناوله للموت عدا انها تضع الموت في قارب بعيد عن اشرعة الشاعر الإنكليزي .
أما في الرومانسية المشتركة بين لوركا وديلان توماس , فقد تعمد لوركا في قصائد ديوان ” اغاني الغجر ” ان يكيل لها العواطف بالأقداح , بحسب تعبير السياب , ليبرز الإنغماس بالعاطفة الرومانسية بشكل مكثف :
Huye luna, luna, luna.
Si vinieran los gitanos,
harían con tu corazón
collares y anillos blancos.
أهرب ياقمر , قمر , قمر
إذا جاء الغجر
سيصنعون من قلبك
قلائدآ وخواتمآ بيض ( اغاني الغجر- لوركا )
في كتاب ” الإنطباعات والمناظر الطبيعية ” , برزت مقاطع شاعرية يمكن اعتبارها قصائد لأنها تحمل في داخلها طابعآ عاطفيآ , ولنأخذ مثلآ قصيدة ” Atardecer وتعني ” الغروب ” وهو موضوع يتكرر في شعر لوركا , إذ فيه التقاط لدقائق سطوع الجمال متجسدآ بالغروب قبل الزوال , فيقول :

de olivos
se abre y se cierra
como un abanico.
Sobre el olivar
hay un cielo hundido
y una lluvia oscura
de luceros fríos.
Tiembla junco y penumbra
a la orilla del río.
Se riza el aire gris.
Los olivos,
están cargados
de gritos .
Una bandada
de pájaros cautivos,
que mueven sus larguísimas
colas en lo sombrío.

حقل الزيتون
ينفتح وينغلق
مثل مروحة.
فوق بستان الزيتون
سماء غارقة
ومطر مظلم
من نجوم باردة .
تهتز القصبة والظل
على ضفاف النهر.
والهواء الرمادي
يتجعّد .
اشجار الزيتون
ممتلئة بالصراخ ( قصيدة الغروب – لوركا )

في هذه القصيدة دلالة على ان الرؤية الشعرية , دائمآ , تبتعد عن المشاهد الصورية البحتة , لذا فإن الموت في قصيدة الغروب يمتزج بعناصر الطبيعة , وبهذا فإنها تنتمي الى هذه الثنائية التي يتقاطع فيها الزمن المحتضر بنداء الغروب مع الطبيعة المتمايلة بين الضوء والظلمة , وهذا قد يتأوّل عند البعض من النقاد الى ان لوركا كان يصف الموت وهو في زمنه الشعري بصراخ داخل الزيتون .

وهذا يعني ان الجمال نفسه يتألم لحظة الأفول , فعند البدء بإحتضار اجزاء من الطبيعة , يبدأ الجمال بالسطوع ليقترن به نحو الموت ومن بعد الى ولادة جديدة , وكأن الشاعر يرغمنا على تذكّر الرؤية الشعرية لدى السياب بشكل لامفر منه , عندما صوّر الشهيدة ” جميلة بوحيرد ” في مشهد الحياة الذي قتلت فيه , انه كان من اجل ولادة جديدة وزاهية بالغد الجديد :

يا أختي النبيلة
يا أختي القتيلة
لك الغد الزاهي كما تشتهين
……
……
الله , لولا أنتِ يافادية
ماأثمرت أغصاننا العارية
أو زنبقت أشعارنا القافية . ( قصيدة جميلة بوحيرد – بدر شاكر السياب )

بهذه الرؤية الشعرية التي تضاف الى تقاطع لوركا مع ديلان توماس بإنبلاج الأمل في الحياة مرة اخرى وليس البقاء بالفناء الأزلي , جسّد الشاعر لوركا الصراع بين الجمال والموت عندما يكون عابرآ لوسائل الموت التي يستخدمها الإنسان , بصراع الطبيعة الهاديء مع حتمية الموت في الحياة من أجل ولادة اخرى .

في نمط كسر او تقويض ثنائية التفكير the subversion of dualistic thinking ” , نجد لدى ديلان توماس قصيدة ” لاتذهب بلطف الى تلك الليلة الجميلة ” Do not go gentle in to that good night انها في الظاهر تتحدث عن مقاومة الموت الذي يراه ديلان توماس مهددآ في تجسّده لوالده المريض ومن ثم الإطاحة به من الناحية المجازية , لذلك نبّه الى مقاومته في لحظة تحول الحياة الى عالم الفناء , بصرخة شجاعة للإنسان مفادها : اغضب ضد انطفاء النور , وليست مثلما يراها لوركا بلحظة إنبثاق الجمال البصري عند غروب الشمس ,

إذ ان القصيدة جديرة بالتأمل في بنائها ومنهجيتها ومعناها العميق وهي تتحدث عن زعزعة الوجود بفكرة الحياة والموت , إذ لاتصور الموت كنهاية سلبية بشكل تام , ولا على انها الخير , بل الشاعر منذ بدء القصيدة نهى عن الدخول الى تلك الليلة الجميلة بأداة النهي ” لا ” Don’t go ,

ودعا الى الغضب والوقوف ضد انطفاء النور الى اخر لحظة من الألم والمرارة وسكرة الموت , الذي يستدل منه ان هناك تفاعلآ غيبي بين النور والظلام من جهة , وبين استمرارية الحياة ونهايتها من جهة اخرى , فهو يقول :

Rage, rage against the
dying of the light.
اغضب , اغضب
ضد انطفاء النور

إذن القصيدة تتمحور في تقويض ثنائية التفكير السابقة الخاصة بموضوعة الحياة كوجود فاعل وموضوعة الموت كخمود نهائي .

اما الشاعر فيدريكو غارسيا لوركا فيقدم لنا مثالآ لهذه الفكرة , قصيدة ” اللعنة والموت ” وهي مرثية من اجل إغناثيو سانشيز ميخياس ” يقول فيها :
A las cinco de la tarde.
Eran las cinco en punto de la tarde.
Un niño trajo la blanca sábana
A las cinco de la tarde.
Una espuerta de cal ya prevenida
في الخامسة بعد الظهر.
كانت الساعة الخامسة
بعد الظهر.
احضرَ الطفلُ
الملاءةَ البيضاء ,
في الخامسة بعد الظهر
سلة الجير تهيأت
a las cinco de la tarde.
Lo demás era muerte y sólo muerte
a las cinco de la tarde.
في الساعة الخامسة
عصرآ
كان الموت
الباقي وحده
في الساعة
الخامسة . (اللعنة والموت ” مرثية من اجل إغناثيو” – لوركا )

بهذه القصيدة , استخدم لوركا عبارة Una espuerta de cal ya prevenida
ويقصد بها ” سلة الجير تهيأت ” , او حضرت لتقترن بالموت . والجير هي كلمة ترمز الى الظلام والموت معآ , فقد تهيأ الموت ليدخل الى ظلام القبر اسوة بالجير الذي تهيأ لذلك مسبقآ , ليقوم بتطهير القبر من الداخل قبل ان يوضع المتوفي في الكفن الأبيض , وهذه إضافة مأساوية للقصيدة ,
وربما العرب , كانوا ايضآ , يفعلون الأمر ذاته مع امواتهم عند تفشي الجائحات كالطاعون مثلآ والجدري , فيقومون بطلاء القبور من الداخل بالقار لكي لاتتفشّى أمراض المريض بالأرض , إذ مازال التعليق شائعآ حتى بالتراث اللغوي العراقي على اي رجل ذو سوءة عندما يموت , فيقولون عنه بقولهم :
بالجير أو القير , كإشارة الى تشديد الظلام عليه , ويبدو ان هذه الحقيقة لم تعد مقصورة على العرب , بل تبيّن من صياغتها شعريآ بأسلوب ذو دلالة , انها كانت شائعة كذلك في حياة الإسبان أيام لوركا , وربما الشاعر ورثها من تراث مملكة غرناطة العربية , كونها مسقط رأسه , في زمن الجائحات التي اجتاحت اوربا , فكتبها ليوثقها بسرد شعري وتعبير عاطفي رائعين .

في قصيدة البكاء اختزال كثيف لصور الموسيقى , الألم , والرؤية الصوفية وبروز كثيف وعميق لثنائية الغياب والحضور التي يتشابه بها مع ديلان توماس في قصيدته ” بعد الجنازة After the Funeral

 

He cerrado mi balcón
porque no quiero oír el llanto
pero por detrás de los grises muros
no se oye otra cosa que el llanto.

Hay muy pocos ángeles que canten,
hay muy pocos perros que ladren,
mil violines caben en la palma de mi mano.
Pero el llanto es un perro inmenso,
el llanto es un ángel inmenso,
el llanto es un violín inmenso,
las lágrimas amordazan al viento
y no se oye otra cosa que el llanto.

اغلقت شرفتي
لأنني لا اريد اسمع البكاء
ولكن خلف الجدران الرمادية
لا يُسمع سوى البكاء
هناك ثلة من الملائكة تغني ,
و قلة من الكلاب تنبح
والف كمان يمكن ان تُمسك في راحة يدي
لكن البكاء كلب ضخم
البكاء ملاك ضحم ,
البكاء كمان ضخم ,
الدموع تكممم الريح
فلا يسمع سوى البكاء .

 

الخلاصة
بهذا العرض المكثّف والخاص بالتشابهات والتقاطعات في جوهر الرؤية الشعرية , تميّز نتاج الشاعرين فيديريكو غارسيا لوركا وديلان توماس , كلا بحسب صبغة إنتمائه الى ثقافته , وهذا ماجعل الإختلاف واضحآ بين الرؤيا الصوفية والروحية المحلية لدى لوركا وبين الرؤيا الوجودية والمصير الإنساني لدى ديلان توماس , والمحور الذي تدور عليه تلك الرؤى الشعرية , وقد اضافت هذه الرؤى الشعرية صورآ عن بعض مظاهر الحياة الإجتماعية المستقرة وغير المستقرة الخاصة بالشاعرين , بلغة الشعر الخالدة .

عسى بهذه المقالة التي حرصنا على ان تكون قصيرة , انجزنآ عملآ يستحق القراءة وأضأنا بها مدارك القاريء بمقدار من النقد الموضوعي المرتكز على الكشف عن اصول وخواص تلك الرؤى الشعرية التي توظّفت عرفآ مشتركآ في جزئية من خصائص اللغة الشعرية الأنكليزية والإسبانية ,
وجرت على نهج دعانا الى دراستها وهذا , لاشك , يحضّ بالتالي على دراسة المفارقة التأريخية بين مشاعر الأمس واليوم واثر ذلك في تطور القصيدة الحديثة من ناحية , و تطور حضارات الأمم من ناحية العقائد والإتجاهات الفكرية والتجارب الإنسانية ذات التأثير المشترك فيما بينها من اجل احيائها والإحتفاء بها مهما كانت نائية عن المهتمين وخاصة بخصائص الشعر واتجاهاته من ناحية اخرى .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضاءة
* تماريت : اسم ضيعة او بيت ريفي راقٍ تملكه عائلة الشاعر , تقع اطلالته على ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي يبعد بمسافة خمسين كيلومترآ الى الجنوب من مدينة غرناطة , حيث كانت العائلة تقضي سفراتها في ذلك المكان الريفي للإستمتاع بالواجهة البحرية والجرف الصخري ,
وقد عثرت يد الشاعر في مكتبة تماريت المهجورة على كتاب باللغة العربية بعنوان ” قصائد مختارة ” كتبها المستشرق الأسباني ايليو غارسيا غوميز المتوفي عام 1995 , وهو احد شعراء جيل 1927 مع صديقيه فيديريكو غارسيا لوركا ورافائيل البرتي , فبدأ لوركا بكتابة جزءآ كبيرآ من قصائد الديوان بأسلوب القصائد الشعرية العربية التي قرأها في تماريت

أحدث المقالات

أحدث المقالات