من أمثال العرب : (( أُرِيها السُّهَا وتُرِيني القَمَر)) , وهو مثل يقال في البليد تشرح له أمراً ويفهم غيره , والسُّها كويكب صغير في بنات نَعْش لا يكاد يُرى , وأصل المثل أن رجلاً أشار بإصبعه إلى السها لتراه امرأة , ثم طلب منها أن تشير إليه , فأشارت إلى القمر , فقال مقولته تلك نافضاً يده منها , وهناك من الأمثال المترجمة المتداولة بين الناس المثل القائل (( أشير الى القمر والأحمق ينظر إلى اصبعي )) , ويقال أن أصله مثل صيني , ومعناه واضح معلوم , وفي التراث العربي مثل له معنىً أعمق وأبعد غورًا , يقول : (( أريه السُّهى ويريني القمر )) , وهو مثل عربي قديم يضرب للشخص الذي يناقش صاحبَه في أمور دقيقة , فيناقشه صاحبُه في أمر واضح بيّن يحسب أنه محل النقاش , والسُّهى : نجم بعيد , يقع مجاورًا لنجم المئرز, كان الناس يستخدمون نجم السُهى لاختبار قوة أبصارهم , والمثال (أريه السهى ويريني القمر) يحكي حال كثير من الحوارات وما يتخللها من الاعتراضات التي لا تتناول النقطة محل النقاش , لا أدري إن كان استعمال هذا المثل في المناقشة يخرج المرء عن دائرة التهذيب مع الغير, أو إن كان يتضمّن ثناءً على النفس , لكنه دقيق في دلالته على كثير من المناقشات التي يفسدها الكلام بلا علم .
سبب كتابتي هذه المقامة , هو أني قرأت قبل أيام هذا البيت الشعري مكتوبا في أحد المواقع :(( شَكَونا لهم أحزاب العراق === فعابوا علينا لحوم البقر , فكانوا كما قيلَ فيما مضىِ === أُريها السُهى وتريني القمرْ)) , عندما بحثت في المعنى لم أجد ترابط بين حزب وبقر , فلماذا يعيبون ؟ ,هل أنهم لا يأكلون لحم البقر ؟ هل يأكلونه , ويحرموه على غيرهم ؟ فلماذا العياب ولماذا يعيبون , هل لأنهم من كتلة أخرى أو طراز أخر؟ فكرت ربما المقصود الغرب , ولكن أهل الغرب أيضا يأكلون لحوم البقر , ربما لحوم الخنازير أكلها يجعل الغيرة تقل لدى الآكلين , ولكني وجدت القصة ومعناها بفضل العم جوجول , أنها تتعلق بالحجاج أبن يوسف الثقفي عندما كان أميرا على العراق من قبل الأمويين في عهد عبد الملك.
أصابت أهلَ السَّواد الحاجةُ , وقَلَّ عندهم مردودُ الأرض , فقالوا : إلى الأمير نتوجَّه , ومَن يكلِّم الأمير؟ مَن يجرؤ أن يكلَّم الأمير؟ إنَّه فلان , نديمه , لا بل فلان , ثُمَّ استقرَّ الرأي أنْ يذهبوا جميعًا إليه , وفدٌ كاملٌ بلغة العصر , وصَلُوا إلى فسطاطه وقالوا بعد السلام والإذن ومراسم الدُّخول : دامَ فضلُك , لنا حاجةٌ نَوَدُّ قضاءَها , قلَّت المواسم وكِدنا لا نجني من أرضنا قفيزًا ولا إردبًّا , وكادت ألاَّ تعطي دينارًا ولا درهمًا , فقد ساء الحرث , إنِّي أتَفَهَّم حاجتكم , ولكن اشرَحُوا لي الأمر , فقال في نفسه : وكيف تقلُّ المواسم إذا قَلَّ الحرث وتَكثُر إذا كَثُرَ الحرث؟ وكيف يَكثُر الحرث إذا كثرت لوازمه؟ وكانوا يحرثون أرضهم على البقر, فقال في نفسه : يجب أن يَكثُر البقر , شرَح الوفْد حاجته وأطنَبُوا في شرْح المسألة، وعَد الأمير بالحل وهو يحسبها حسابًا لم يثقله , توجَّه إليهم قائلاً : غدًا تَعرِفون الحلَّ , ظنَّ القوم أنَّ الحجَّاج أميرَهم سيُصِيبهم بأعطياته , فتدفن حاجاتهم , وتسعد حياتهم , فقد يدعوهم غَدًا للعَطايا والهِبات , لكن الطبل سارَ في إمارته وسار معه مبلغ السلطان بأَمْرِ الأمير ينشُر في كلِّ زاويةٍ ومكان , في القُرَى وفي البلدان , وليُعلِم الشاهد فيكم الغائب : قرَّر مولانا الأمير منْع ذبْح البقر في الريف والحضر, وكل مَن يُخالِف يُعاقَب عقوبةً بالغة , ومَن يُخالِف الأمير؟ وقد دانَتْ له العِراق وقد عصيت على غيره , حتى دانَ له ما حوْل إمارته قدر إمارته وأكثر, وكيف يُخالِفونه وهم يعلَمون أنَّه يتطلَّع إلى الرُّؤوس في العِقاب , ولا يرى في غيرها مُؤدِّبًا ووازِعًا ؟ رصَد شاعرٌ أديبٌ ما حَلَّ به وبقومه , فأوجز ذلك في بيتَيْن حفظ فيهما الواقعة , وأثبت فيهما حدوثها وذكر الحل الذي قدَّمَه الحجاج , فقال الشاعر: (( شكونا اليه حال السواد فحرم فينا لحوم البقر , فكان كما قيل من قبلنا أريها السها وتريني القمر )) .
وهكذا لغير الله الشكوى لا تكون , ولو كانت إلى ذي قلب حنون , لكنَّه ضعْف البشر , تُصِيبهم الفاقَة فيَظنُّون الحلَّ عند أصحاب المال , وتَنالُهم الحاجات فيَسأَلون الحكَّام قَضاءَها , وهو أمرٌ قديم قِدَمَ الغِنَى والفقر , وقِدَم الحاكم والمحكومين , والأمير ورهطه , والملك ومملكته , والحاكم ومحكوميه , هم في الحقيقة سواء , فكلُّهم أصحاب حاجات وإنْ أعطوا وإنْ أخَذُوا , ولا يُعقَل أنْ يُصبِح صاحب الحاجة معطيًا مطلقًا وإنْ أعطى , فهو وإنْ أعطى يُعطِي ممَّا أخَذ.
السُّهَا أو السُّهَى أو السّتا أو الصَّيْدَقُ أو نُعَيْشُ (وورد في بعض المخطوطات والكتب باسم يَعِيشُ , وهو تصحيف كلمة نُعَيْش) هو نجم مرافق لنجم المئزر وأكثر خفوتاً منه , لكنهما نجم مزدوج بالنسبة للناظر من على سطح الأرض بالعين المجردة , الموجود في كوكبة الدب الأكبر بنات نعش الكبرى , نجم السُها Alcor : إسم فلكي أصيل لنجم شهير , وهو واحد من أشهر نجوم السماء , وهو أحد نجوم المغرفة الشهيرة في كوكبة الدُب الأكبر , وعندما ننظر للمغرفة , ثاني النجوم في يد المغرفة هو نجم (( المئزر Mizar )) , وعندما ندقق جيداً في نجم المئزر سنجد له رفيقاً ذو لمعان خافت , هذا هو نجم (( السُها )) , وهو ليس لامعاً جداً ولكنه بالرغم من ذلك ذو شهرة كبيرة , ففي الثقافة العربية القديمة كان يعتبره العرب معياراً لقوة الإبصار , فنجم السُها يُشكل زوجاً نجمياً مرئي مع نجم (( المئزر)) ,لكن السُها أخفت بكثير , فكان يعتبر أن الإنسان ذو البصر الحاد هو الذي يستطيع أن يميز السُها بجوار المئزر.
يعتبرالمثل (( أُرِيها السُّهَا وتُرِيني القَمَر)) نموذجا لجمالية الأمثال العربية , وقدرتها على تلخيص مواقف معقدة بكلمات قليلة , فمعناه اللغوي الظاهري : أنك تحاول أن تُري شخصًا نجمًا صغيرًا خافتًا (السُّهَا) , بينما هو يريك القمر الساطع , أي أنه يتجاهل ما تقدمه ويركز على شيء آخر أكبر وأكثر أهمية (أو ربما مختلفًا تمامًا) , ويحمل هذا المثل إسقاطات عميقة على الديناميكيات السياسية في عراق بريمير , لأننا غالبًا ما نجد هذا النوع من التباين في الأولويات ووجهات النظر , والتركيز على القضايا الثانوية وإهمال الأساسية , حيث نجد ان جهة سياسية أو حكومية تحاول التركيز على إنجازات صغيرة أو قضايا هامشية لتشتيت الانتباه عن المشاكل الكبيرة والجذرية التي يعاني منها البلد , مثل الفساد المستشري , أو الأوضاع الاقتصادية الصعبة , أو الخلافات العميقة بين المكونات , في هذه الحالة , تكون الحكومة أو الجهة السياسية (( تُري السُّهَا )) للمواطنين , بينما هم يتطلعون إلى حلول جذرية وشاملة (( القَمَر )) , أو قد ترفع بعض القوى السياسية سقف التوقعات بوعود كبيرة وطموحة (( القَمَر )) , بينما تكون الإجراءات المتخذة أو القدرة الفعلية على تحقيق هذه الوعود محدودة ومتواضعة (( السُّهَا )) , هذا يخلق فجوة بين ما يُعرض وما ينتظره الناس.