في خضم الفوضى الأمنية التي عصفت بالعاصمة بغداد عام 2009، كانت المدينة تواجه موجة غير مسبوقة من الهجمات الإرهابية اليومية، استخدمت فيها الجماعات المتطرفة كل وسيلة متاحة من وسائل الترويع والدمار، بدءاً من السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والعبوات اللاصقة، وصولاً إلى القصف بصواريخ الكاتيوشا والاغتيالات المنظمة. في كثير من الأحيان، كانت هذه العمليات تأخذ طابعاً مزدوجاً، حيث يتبع الانفجار الأول انفجاراً ثانياً يستهدف القوات الأمنية والمسعفين والمدنيين على حد سواء لم تكن الأيام عادية ولم تكن الليالي سوى امتداد للنهار في مشهد دائم من الترقب والتأهب كانت قوات الأمن في حالة استنفار دائم، تعمل بلا انقطاع، دون راحة أو حتى مجرد الجلوس على مكتب، فالكل في الميدان، والكل في سباق مع الزمن ومع العدو الخفي الذي يتربص بالمدينة وسكانها. ورغم أقصى ما بذل من جهود استخبارية وميدانية إلا أن طبيعة التهديد وتعقيده جعل من المعركة أشبه بصراع وجود في تلك المرحلة، كانت الأجهزة الاستخبارية العراقية لا تزال في طور التشكيل وإعادة البناء بعد سنوات من التفكك والتغيير، إلا أنها بالرغم من ذلك تمكنت من تحقيق اختراقات مهمة في تتبع نشاطات الجماعات الإرهابية وتحديد بؤر تمركزها وخطوط تمويلها غير أن التحدي الحقيقي كان في القدرة على التمييز بين العدو والصديق خاصة في بيئة حضرية فيها مختلف الطوائف والقوميات والأعراق معقدة ومتشابكة مثل بغداد حيث يصعب في كثير من الأحيان تمييز الإرهابي عن المواطن العادي ولهذا، كان العامل الحاسم في ترجيح كفة الأمن يتمثل في العنصر البشري المدني أي المواطن نفسه، الذي يمثل نصف المعركة أو أكثر بدون تعاون المواطن تبقى الأجهزة الأمنية عاجزة عن الوصول إلى الهدف النهائي، وهو القضاء على الإرهاب واستعادة الأمان في الشارع ذلك هو الهدف الاستراتيجي وقد أدركت القيادة الأمنية هذا الأمر مبكراً فعملت على إشراك الأهالي بطرق مختلفة سواء من خلال بث رسائل التوعية أو عبر تشكيل قنوات اتصال مباشرة بين المواطنين ومراكز الأمن وكذلك فتح قنوات الحوار مع كل المكونات والعشائر سواً في مركز بغداد او اطرافها ولكن التجربة الأكثر تأثيراً في هذا السياق كانت تشكيل مجالس الصحوات ومجالس الإسناد وهي كيانات مدنية – عشائرية مسلحة نشأت بدعم مباشر من الحكومة العراقية في بادى الأمر وبعدها احتضنت من قبل القياده العسكرية ببغداد وتم تفعيلها في عدد من أحياء بغداد لا سيما في المناطق التي كانت تشهد نشاطاً متزايداً للعناصر الإرهابية.لعبت هذه المجالس دوراً محورياً في تحقيق الاستقرار النسبي حيث شكّلت خطوط دفاع أولى داخل الأحياء وقدّمت معلومات استخبارية دقيقة عن التحركات المشبوهة وساهمت في الحد من قدرة التنظيمات الإرهابية على استخدام المدنيين كغطاء لتحركاتها. لكن ذلك الدور لم يكن بلا ثمن، فقد تعرّض عناصر الصحوات ومجالس الإسناد للاغتيال والملاحقة، خصوصاً في المناطق التي أعادت الجماعات الإرهابية التسلل إليها، أو في تلك التي كانت تشكّل ملاذاً آمناً لها، مثل الأطراف الغربية للعاصمة، التي كانت ترتبط جغرافياً بالمحافظات الغربية الساخنة.
ورغم كل ما تحقق من نجاحات في تلك الفترة فإن الدرس الأكبر الذي خلصت إليه تلك التجربة هو أن الأمن لا يُصنع فقط بالبندقية ولا بالمعلومة الاستخبارية وحدها بل يُصنع بثقة الناس وتكاتفهم ووعيهم بأن المعركة ضد الإرهاب هي معركتهم قبل أن تكون معركة الدولة وهنا وفي مواجهة هذا الواقع المعقد والمتغير، لجأت قيادات عمليات بغداد بكل تشكيلاتها إلى تطوير أسلوب عملها الأمني، مستفيدة من التجارب الميدانية السابقة والدروس القاسية التي فرضتها طبيعة المعركة. أدركت القيادة أن العمل الأمني التقليدي لم يعد كافياً، وأن طبيعة الإرهاب الذي يختبئ بين الناس ويتحرك في الأزقة والأحياء السكنية يتطلب نمطاً مختلفاً من التعاطي، فكان القرار بالانتقال إلى نهج جديد قوامه دمج المواطن بشكل مباشر وفعّال مع الأجهزة الأمنية، ليصبح شريكاً حقيقياً في صناعة الأمن لا مجرد متلقٍ له.
من هذه الرؤية انبثقت فكرة “الأمن المناطقي”، وهو نظام أمني محلي الطابع شمولي الأداء، يقوم على توزيع المسؤوليات الأمنية بطريقة تجعل كل منطقة جغرافية محددة مسؤولية مباشرة لقوة أمنية محددة، تتولى حماية أهلها بالتعاون مع الأهالي أنفسهم. لم يعد رجل الأمن غريباً عن المجتمع، بل أصبح جزءاً منه، يعرفه السكان بالاسم، ويشاركونه المعلومة والهمّ والمسؤولية.وقد أُسس هذا النظام على قواعد دقيقة تتضمن التعرف على التركيبة السكانية لكل منطقة، وبناء علاقات ثقة بين السكان والقوات الأمنية، وفتح قنوات اتصال فاعلة ومستمرة، إلى جانب استخدام التكنولوجيا المتاحة في حينها لتتبع المعلومات وربط الأحداث وتحليلها. كما تم تشكيل خلايا أمنية فرعية داخل كل قاطع أمني، تكون مهمتها مراقبة الأوضاع وتحليل الأنماط والبلاغات، ومتابعة التحركات المشبوهة بالتنسيق مع المصادر المحلية.هذا التحول في العقيدة الأمنية لم يكن شكلياً أو بروتوكولياً، بل أحدث فارقاً حقيقياً في الأداء الميداني، وأسهم بشكل مباشر في تقليص قدرة الجماعات الإرهابية على التحرك بحرية، وأربك خططها في إيجاد بيئات حاضنة أو ممرات آمنة. بل أكثر من ذلك، أصبح المواطن في ظل هذا النظام عنصراً فاعلاً في توجيه الضربات الوقائية، من خلال الإبلاغ المبكر عن التحركات المريبة، أو حتى تقديم معلومات حول المواد المتفجرة والمضافات المستخدمة في العمليات الإرهابية.ولأن كل منطقة باتت تحت أنظار سكانها وبتعاون وثيق مع القوات الأمنية، فقد بدأ الإرهابي يشعر بأنه مطارد في كل زاوية، بلا مأوى حقيقي، ولا غطاء اجتماعي يحميه. وهنا بدأت معادلة الأمن بالتحول لصالح الدولة، وانتقل الأداء الأمني من حالة رد الفعل إلى المبادرة، ومن الملاحقة بعد التفجير إلى الإحباط قبل التنفيذ.تجربة الأمن المناطقي لم تكن فقط إجراءً فنياً، بل كانت نقلة نوعية في مفهوم الأمن المجتمعي، وقد أثبتت أن الثقة المتبادلة بين المواطن والمؤسسة الأمنية، إذا ما أُحسن بناؤها ورعايتها، يمكن أن تتحول إلى قوة ردع أقوى من أي حاجز أو دورية. وأعطى ذلك الأسلوب الأمني ثمارًا واضحة ومؤثرة، إذ بدأ الأهالي يشعرون بأنهم ليسوا مجرد سكان في مدينة تعاني من الخطر، بل إنهم جزء أصيل من منظومة الأمن نفسها، ولا يمكن لدحر الإرهاب أن يتحقق دون مشاركتهم الفاعلة. هذا التحول في الوعي الشعبي لم يكن وليد اللحظة، بل جاء نتيجة تراكُم من الإجراءات الميدانية والتواصل المباشر بين القيادات الأمنية والمجتمع المحلي، وتأكيد مستمر على أن المواطن هو خط الدفاع الأول.لقد غيّر هذا النهج من طبيعة العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمواطنين، حيث بدأت جسور الثقة تُبنى بهدوء، لكن بثبات، بعد سنوات من التباعد والشكوك. كثير من الناس، ممن كانوا في السابق يعيشون تحت وطأة الخوف أو لديهم التباسات بشأن ولاء المؤسسات الأمنية، بدأوا يكتشفون حقيقة ما كانت تسعى إليه القيادة آنذاك: هدف وطني لا علاقة له بالمسميات الطائفية أو الانقسامات السياسية، بل هدفه حماية العراق وشعبه بكل مكوناته.ومع انكشاف هذه الحقيقة، حصلت نقطة التحوّل الكبرى، حين التقى الحس الشعبي بالأداء الأمني على أرضية مشتركة، فبدأ التعاون يثمر نتائج ملموسة، ليس فقط في الجانب الأمني بل حتى في ترميم النسيج المجتمعي نفسه. وبهذا اللقاء، تمكّن الجميع من تجاوز مرحلة الشكوك والاتهامات، وولدت قناعة وطنية بأن الأمن مسؤولية مشتركة، وأن الانتماء الحقيقي هو للعراق، وليس لأي عنوان آخر.ولعل من أبرز مخرجات هذه المرحلة أن المواطن لم يعد ينظر إلى رجل الأمن باعتباره سلطة فُرضت عليه، بل شريكاً في المعركة، صديقاً في الحي، وحامياً للناس لا رقيباً عليهم. هذا التغيير في الوعي ساهم في خلق بيئة أكثر استقرارًا وأمناً، ووفّر للأجهزة الأمنية قاعدة معلوماتية بشرية يصعب اختراقها من قبل العدو، وبهذا، تحولت المبادرة إلى يد الدولة، وبدأ الإرهاب يتراجع، مهزوماً ليس فقط بالسلاح، بل بإرادة الناس وثقتهم بوطنهم. نجحت تلك الخطة الأمنية بامتياز، وأثبتت مع مرور الوقت فعاليتها وواقعيتها في التعامل مع بيئة أمنية معقدة ومليئة بالتحديات. وقد استمرت هذه المنهجية حتى بعد مغادرتنا المسؤولية، إذ تبناها القادة الذين جاؤوا من بعدنا، فبنوا على أسسها وطوّروها بما يتلاءم مع المتغيرات، الأمر الذي منحها استمرارية وثباتًا في الأداء الأمني.
وسرّ هذا النجاح لم يكن في الخطط المكتوبة فحسب، بل في وجود نخبة من القادة والضباط الذين تحلّوا بالوعي العالي والانضباط والشجاعة. كانوا رجالاً من طراز خاص، خاضوا المعركة بأجسادهم وعقولهم، وكانوا مشروعاً دائماً للشهادة في سبيل الوطن. لم يكن أحد منهم يبحث عن منصب أو مكافأة، بل كان الجميع يتسابق في ميادين الشرف، بروح من التعاون والولاء الحقيقي للعراق وشعبه.برز في تلك المرحلة الدور الحيوي والمميز لقيادة عمليات بغداد بكل فرقها وتشكيلاتها التي شكّلت مركز الثقل في القرار الميداني، فكانوا قادتها حاضرين في المشهد بأثرهم وتأثيرهم، لا خلف المكاتب بل في الخطوط الأولى، وبين الناس والقطعات، يرصدون ويصححون ويقودون بأنفسهم ومن شدة تماسك هذه المجموعة القيادية وقوة تأثيرها، أُطلق عليهم اسم “القادة الأقوياء”، ولم يكن ذلك مبالغة، فقد كانت شجاعتهم وقوتهم تتجاوز التصورات، وكانوا بحق درع بغداد وحصنها المنيع ومن الأمانة التاريخية كانت قيادة عمليات بغداد بكل قادتها وهيئات الركن وجميع الآمرون بكل المستويات والمقاتلين هؤلاء الذين صنعوا الأمن بعرقهم وتضحياتهم وخلّدوا أسماءهم في ذاكرة بغداد وأهلها، لأن الوفاء لهم هو وفاء لبغداد نفسها، ولتاريخها الذي كاد أن يُختطف لولا مواقفهم البطولي وكانت هذه الكوكبة مثالاً للوطنية والنزاهة والانضباط العالي ويمثلون مدرسة حقيقية في القيادة الميدانية. لقد استطاعوا بعملهم المشترك وروحهم الوحدوية أن يغيّروا وجه بغداد من مدينة مستهدفة كل يوم إلى مدينة تستعيد أمنها وتنهض من جديد، وكل ذلك بإرادة الرجال الأوفياء