كنا نتجمع مبتهجين حول صينية الزكريا عند أول أحّد من شعبان كل عام , وبعضهم يصوم ذلك اليوم.
والليلة نسبة للنبي زكريا الذي نادى ربه طالبا منه ولدا , وهو في سن الثانية والتسعين من العمر , وزوجته السيدة إيشاع عاقر في سن الثامنة والتسعين , ولبى الله تعالى نداء زكريا ورزقه بإبنه (يحيى) النبي.
“هنالك دعا زكريا ربه , قال ربِ هَب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء”3:38
“يا زكريا إنا نبشرك بغلام إسمه يحيى لم نجعل له من قبل سَميا”. 19:7
“قال ربِّ أنى يكون لي غلام وكانتِ امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكِبر عتيا”19:8
“قال كذلك قال ربك هو عليّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا”19:9
“قال ربي أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكِبر وإمرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء”3:40
وإستعدادا لليلة الزكريا يتم شراء الأوعية الفخارية الصغيرة الحجم على عدد أبناء العائلة , فللولد يكون الإبريق وللبنت التُنكة , وكذلك تُشترى الشموع الحناء والبخور, وأنواع الحلويات كالجوكليت والحلقوم (لقم) , والحمص والكرزات.
وكانت مهمة الصبية إحضار “الآس” , فنذهب إلى حداق سامراء العامة التي كانت تزهو بأشجار الآس , خصوصا شارع البنك أيام زمان , والحدائق الزاهية المسورة بالآس في منطقة (الأعمار) , الواقعة ما بين البلدية القديمة وسدة سامراء , حيث الحدائق الوارفة التي تتباهى فيها أشجار اليوكالبتوس والدفلى , وتتغنى الأطيار.
ومن هذه الحدائق نقطع باقات الآس على عدد الأوعية الفخارية , حيث يوضع الآس بعد أن يسكب فيها الماء.
وفي الصينية توقد الشموع على عدد أفراد العائلة , بأحجامها وألوانها المتنوعة ,وتوضع عجينة الحناء في آنية صغيرة وتنغرز فيها عيدان البخور.
وتتعدد ألوان الطعام , كالمحلبي والحلاوة والزردة بالحليب والحلاوة الشكرية والسمسم المقلي المحلى بالسكر , وغيرها من أطباق المأكولات التي تعدها ربة البيت.
وبعد غياب الشمس , توقد الشموع , ويجتمع أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء , ويتلى القرآن , وندعو الله أن يحقق “مُرادنا” , ويديم نعمته علينا .
وبعدها تجدنا نردد:
” يا زكريا …عودي عليه
كل سنة وكل عام
ننصب صينيه”
ونكررها مرارا , وقد إمتلأنا بالفرح والشوق لتناول الحلوى , فنأنس بالصينية والآس والشموع.
تلك عادة إجتماعية كانت على قدر من الأهمية والإنتشار في سامراء , ولها مواسمها الإقتصادية , وأظنها قد تلاشت وانحسرت أو فقدت ذلك الدور الإجتماعي الإيماني الفياض , خصوصا وأن أشجار الآس قد إختفت من المدينة , وما عادت تشكل حيزا في ذاكرة الأجيال على مدى أكثر من ثلاثة عقود , بعد أن خُرّبت المساحات الخضراء والحدائق العامة والوسطية في أرجاء المدينة.
تذكرت صينية الزكريا ورحت أشم رائحة الشموع والآس بأوراقه المتلامعة مع وميض ضوء الشموع , المحتفلة بليلة الزكرية وبالصينية المزدحمة بالحلويات الشهية.
هذه عادة إجتماعية متوارثة أسهمت في تواصل الأجيال وتماسك التفاعل الإنساني ورسوخ الوشائج العائلية , وبغيابها وأمثالها , ينتقل المجتمع إلى مرحلة الضعف والتهلهل , ومن القوة الإهتمام بالتقاليد والسلوكيات الإيجابية التي حافظت على بقائنا المعافى السليم.
فهل بقيت عندنا زكريا , تجمعنا بصينيتها , وتطهّر قلوبنا من الأوضار؟!
تحية لسامراء مدينة المحبة والألفة والضيافة والإيمان والحضارة والتأريخ , وكل (زكريا) وهي بألف خير!!