لم يكن انسحاب السيد مقتدى الصدر من العملية السياسية مجرد موقف تكتيكي عابر، بل يمثّل تحولاً استراتيجيًا في أدوات التأثير التي بات التيار الصدري يوظفها في سياقٍ معقّد من التنافس على تمثيل الطائفة الشيعية وقيادة الرأي العام. هذا الانسحاب، رغم كونه علنيًا، لم يؤسس لفراغ سياسي، بل لفراغ مؤسساتي قابله حضور شعبي صامت لا يمكن تجاهله أو الالتفاف عليه.
الإطار التنسيقي، بتركيبته الراهنة، يحاول توظيف غياب الصدر لفرض سردية أحادية للتمثيل الشيعي، لكنه يصطدم بجدار الحقيقة: التيار الصدري لا يُختزل بعدد مقاعده، بل بنمط حضوره في الوعي الشيعي، ورمزيته التي تمتد من الشارع إلى المنبر، ومن الجماهير إلى القيم. وحين يغيب هذا التيار عن الانتخابات، فإن غيابه لا يُملأ بآخرين، بل يفرز شكوكًا حول الشرعية والمقبولية الشعبية للنتائج، مهما بلغت الأرقام.
الخطورة في هذا المشهد أن الإطار يسعى إلى استثمار هذا الغياب عبر أدوات الدولة، في حين أن الصدر اختار الخروج من الحكومة ، لكنه لم يغادر ساحة التأثير. وهذا يضع خصومه في مواجهة مع الحقيقة السياسية: أي تمثيل شيعي يُراد ترسيخه دون التيار الصدري، هو تمثيل منقوص ، لا يعيش طويلًا، ولا يُنتج استقرارًا.
الصدر لا يمارس معارضته من موقع التقليد، بل من موقع “الانسحاب الفاعل”، حيث يظل قابضًا على مفاتيح الشارع، مهيمنًا على الوجدان، وقادرًا على قلب المعادلات متى شاء. وهذه القدرة لا تتأتى من سلطةٍ دستورية أو تحالفٍ سياسي، بل من سلطة روحية تمتد عميقًا في بنية الهوية الشيعية العراقية، وتستند إلى إرث اجتماعي وحركي ضارب في الجذور.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن غياب الصدر يمنحهم مساحة أكبر للتحكم بالمشهد، فإن الحقيقة أن هذا الغياب هو الفراغ الأخطر لأنه لا يُدار من داخل المؤسسات، بل من خارجها، وهو ما يُبقي الجميع تحت طائلة القلق من توقيت العودة ومن شكلها.
إن مشروع الصدر لا يقوم على الانتخابات فقط، بل على مشروع “ تقليص نفوذ الخصوم ” كما يُفهم من مواقفه الأخيرة. وخصومه، وإن نجحوا في إدارة الدولة بالعدد، فإنهم لم ينجحوا في كسب ثقة الناس بالمعنى. ومن هنا، فإن المشهد المقبل لن يُقاس ببطاقات الاقتراع، بل بعمق التمثيل، وشرعية الاستمرار.
هل ستنجح منظومة الإطار في ملء هذا الفراغ؟ ربما تستطيع التحكم بالسلطة، لكنها حتمًا ستظل عاجزة عن بناء الدولة دون شريكها المختلف، والمنسحب، والصامت، والحاضر بقوة: السيد مقتدى الصدر.