هل جعلتنا الثورة الرقمية أحرارًا أم فريسة للتضليل؟

هل جعلتنا الثورة الرقمية أحرارًا أم فريسة للتضليل؟

في وطننا العربي اليوم، أصبحنا نعيش في زمن تتداخل فيه الأصوات والأحداث بطريقة لم نكن نتخيلها من قبل. الثورة الرقمية قد غيّرت كل شيء: من طريقة تواصلنا، إلى طريقة فهمنا للأحداث، وصولًا إلى كيفية تشكيلنا لوعينا السياسي. ولكن مع هذا التغيير، يأتي سؤال أكبر وأكثر تعقيدًا: هل جعلتنا الثورة الرقمية أكثر وعيًا سياسيًا، أم أننا أصبحنا أكثر عرضة للزيف والخداع؟

عندما نعود بالذاكرة إلى الأيام التي سبقت الثورة الرقمية، نجد أنفسنا محصورين في دائرة ضيقة من المعلومات، كانت الحكومات تفرض رقابتها على الإعلام وتحدد لنا ما نراه ونسمعه. كانت الحقيقة مختفية وراء أكاذيب وتضليلات، وكان المواطن العربي مضطراً للاكتفاء بالقليل من المعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام التقليدية. لكن مع ظهور الإنترنت وانتشار منصات التواصل الاجتماعي، حدث تحول غير مسبوق. فالأخبار أصبحت تصلنا أسرع من أي وقت مضى، والمعلومات تتنقل عبر الأرجاء بشكل لم نعهده. ومن هنا، بدأنا نشعر لأول مرة أننا أحرار في التعبير عن آرائنا ومشاركتها مع العالم.

كانت لحظات الربيع العربي مثلاً، تلك اللحظات التي انفجرت فيها الشوارع بالهتافات وارتفعت فيها أصوات الشباب عبر الفضاء الرقمي، تمثل أسمى مثال على قدرة هذه الثورة الرقمية على تغيير مسار التاريخ. تلك اللحظات التي كانت منصات التواصل الاجتماعي فيها ساحة للغضب والأمل في آن واحد، كانت تُستخدم لتنسيق الاحتجاجات، لتنظيم التظاهرات، ولإيصال صوت المواطن إلى العالم. كانت هناك لحظات شعرنا فيها أن الأنظمة الحاكمة فقدت سلطتها على المعلومات، وعرفنا أن أصواتنا يمكن أن تُسمع.

لكن مع مرور الوقت، بدأنا نرى الوجه الآخر لهذه الثورة. أصبحنا نعيش في عالم تتناقل فيه الأكاذيب كما لو كانت الحقائق، وبتنا نشهد كيف تستخدم بعض القوى السياسية والشخصيات المتطرفة هذه المنصات لنشر معلومات مزيفة وتقسيم المجتمعات. وكأننا دخلنا في دوامة من الفوضى، تسيطر فيها الشائعات والافتراءات على العقول. كان الأمر وكأننا قد خرجنا من سجنٍ ضيق لنجد أنفسنا في غابةٍ من المعلومات المضللة، يصعب تمييز الحق من الباطل.

وخلال الأزمة الخليجية في عام 2017، اكتشفنا كم يمكن أن تكون الثورة الرقمية سلاحًا ذا حدين. نعم، لقد فتحت لنا فرصًا جديدة للتعبير، ولكنها أيضًا أصبحت أداةً لتصعيد الأزمات بين الدول. انتشرت الأخبار الكاذبة بسرعة البرق، ووجدنا أنفسنا عالقين بين ما نسمعه من هنا وهناك، متسائلين: ما هو الصحيح؟ وما هو الزائف؟ في تلك اللحظات، كنا نواجه عاصفةً من الأخبار التي تعصف بحقائقنا، والأكثر إيلامًا أن تلك الأكاذيب ساهمت في تغذية الانقسامات بيننا.

وفي الوقت ذاته، لم يعد لدينا أي ضمانة حقيقية للحرية. فبينما كانت الثورة الرقمية تمنحنا صوتًا، فإنها أصبحت أداةً أخرى في يد السلطات للسيطرة والمراقبة. شهدنا العديد من الناشطين الذين تم اعتقالهم بسبب رأيهم على منصات التواصل الاجتماعي. في بعض الدول العربية، أصبحت الحكومات تلاحق حتى التغريدات البسيطة على تويتر، وتُسَجَّل المخالفات كما لو كانت جرائم. وماذا عن حرية التعبير؟ هل هي حقيقة أم مجرد شعارٍ سقط في بحر من القوانين التي تضيق الخناق على كل رأي مخالف؟

رغم كل هذه التحديات، لا يمكننا أن نغفل عن الأمل. فحتى في تلك اللحظات التي بدت فيها الثورة الرقمية وكأنها تُنذر بفوضى لا حدود لها، كانت هناك إشراقات. كان هناك من يواجه التحديات بصبر وعقلانية، ويسعى للبحث عن الحقيقة وسط الضباب. كان هناك من يعيد تشكيل الوعي السياسي للأجيال الجديدة، ويعلمهم كيفية التمييز بين الحقيقة والخيال، وكيفية حماية أنفسهم من المعلومات المضللة.

لكننا لا نزال بحاجة إلى المزيد. لا يكفي أن نكون مجرد مستهلكين للمعلومات، بل يجب أن نكون قادرين على فحصها، على التحقق من صحتها، على رؤية ما وراء السطور. ينبغي أن نغرس في أبنائنا ثقافة التفكير النقدي منذ الصغر، وأن نعلمهم كيف يعبرون عن آرائهم بشكل مسؤول في هذا العالم الرقمي الواسع.

لقد منحتنا الثورة الرقمية فرصة ذهبية لبناء مجتمعات أكثر وعيًا، وأكثر انفتاحًا على التغيير. لكنها في ذات الوقت تضعنا أمام مسؤولية كبيرة في كيفية التعامل مع المعلومات التي نُستهلكها، وكيفية الحفاظ على مصداقية هذا العالم الرقمي. فهل سنكون نحن أبطال هذه الثورة أم أن الحيلة ستنجح في سلبنا الوعي الذي كنا نطمح إليه؟ الإجابة في أيدينا جميعًا.

إن الطريق أمامنا طويل، وقد يبدو محفوفًا بالتحديات، لكن لا يزال لدينا الأمل في أن نحقق التوازن بين الحرية والوعي، بين التعبير الصادق والضوابط التي تحمي الحقائق. فقط إذا اتحدنا، وأصبح لدينا القدرة على التفكير والتفاعل بحذر ومسؤولية، يمكننا أن نبني مجتمعاتنا على أسس من الحرية الحقيقية، التي لا تشوبها الأكاذيب أو التضليل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات