مقامة رفيق الحويجة

مقامة رفيق الحويجة

أستوقفني خبر قيام الرئيس ألأميركي بأغلاق إذاعة (( صوت أميركا )) , الأقدم في المؤسسات الإعلامية الحكومية ألأميركية  , تم الإغلاق تقريباً دون صدى , كما ان هيئة الأذاعة البريطانية , الـ(( بي بي سي )) ,  كانت قد أعلنت العام الماضي إغلاق إذاعاتها الخارجية وسط أسف شديد من الأوساط السياسية والصحافية حول العالم , بعد نحو القرن من ذبذبة موجاتها المتوسطة والقصيرة عبر الأثير , وتذكرت كيف كانت هذه الأذاعات مصادر اخبارنا ومراجعنا في لقائاتنا الدبلوماسية , يوم كانت الإذاعات تلعب دورًا حيويًا في توفير المعلومات والأخبار للمستمعين , وخاصة في المناطق النائية التي لا تتوفر فيها وسائل الإعلام الأخرى , و حيث لم تكن وسائل ألأتصال كما هي هذه الأيام , ولم يكن التلفزيون قد طغى على جميع الوسائل , ولا كانت شبكات الإنترنت قد حولت حياة الناس كما يحدث اليوم , كنا نحرص على سماع أخبارها قبل توجهنا لحضوراي محفل او لقاء او دعوة , لتكون لدينا الخميرة لما نتكلم به ولنكون في صورة الأحداث العالمية دون تلكؤ ناتج عن اهمال مايلزم متابعته .

شهدت الإذاعات في السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في دورها , مما أدى إلى إغلاق العديد منها , ويعود هذا التراجع إلى عدة عوامل , منها , تطور وسائل الإعلام الرقمي , أذ أدى ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي إلى توفير بدائل أكثر تنوعًا وتفاعلية للمستمعين , حيث يمكنهم الآن الوصول إلى الأخبار والمعلومات والموسيقى والترفيه في أي وقت ومن أي مكان , وقد تغيرت عادات الاستماع  فأصبح المستمعون أكثر انتقائية في اختيار المحتوى الذي يستمعون إليه , ويفضلون الاستماع عبر الإنترنت على الاستماع إلى الراديو التقليدي , كما ان الإذاعات تواجه صعوبة في مواكبة التطورات التكنولوجية السريعة , وتوفير محتوى جذاب وتفاعلي للمستمعين , وتراجع إيرادات الإذاعات التي تعتمد بشكل كبير على الإعلانات , وان تراجع عدد المستمعين أدى إلى صعوبة استمرارها .

أستذكرت ألأستاذ عدنان خورشيد التكريتي الذي عملت معه عامي 1985 و1986 في سفارتنا في نيروبي عاصمة كينيا , وكان محاسب السفارة ومسؤولها الحزبي , الذي حكى لي أنه بعد 17 تموز عام 1968  مباشرة , تم اخراجه من السجن , وأوكلت له مسؤولية التنظيم الحزبي في كركوك , حيث قام بأستدعاء عدد من الأنصار , وجعلهم يرددون قسم العضوية ليشكلوا مع عضو سابق من التنظيم الفلاحي في الحويجة نواة الحزب الجديدة في المحافظة , وبدأ التنظيم بالأتساع بعدها , وفي عصر احد تلك الأيام وردت برقية من بغداد , بأن قياديا سيصل كركوك اليوم التالي , ليقيم ندوة للتنظيم , وبعد ان تمت تهيئة المكان والتبليغات بالحضور , وصل عبد الخالق السامرائي عضو القيادة القومية , وأبلغ عدنان ان الندوة ستكون عن مواجهة ألأعلام المعادي للثورة وأنه يريد العودة لبغداد في نفس اليوم , وبعدما أبتدأت الندوة بقليل فتحت الباب ليدخل الرفيق الفلاح من الحويجة متأخرا , ويجلس لاهثا دون سلام أو كلام , ليصرخ به عبد الخالق أن يردد الشعار ليستأنفوا الندوة , فأجابه بلهجة محلية غاضبا : (( لا أخره بالشعار , صار لي ساعة أدك بايدر علبايسكل , والجماعة كلهم بيوتهم بكركوك بس آني جيت من الحويجة )) , غضب الرفيق المسؤول من هذه ألأجابة وطلب من عدنان خورشيد طرده , مما أضطر عدنان ان يهمس بأذنه أنه من أحسن الرفاق بالتنظيم , وان طبيعته القروية تغلب على أطباعه , انما لاشك في مبدأيته العالية وتفانيه , قبل الرفيق المسؤول على مضض , وأستأنف حديثه عن ضرورة ألأستماع للأذاعة الوطنية العراقية التي تبث من بغداد , وعدم ألأنصات لما تقوله ألأذاعات المعادية في أميركا ولندن وأسرائيل , وهنا رفع رفيق الحويجة يده مقاطعا , وقائلا قبل ان يمنح الأذن بالكلام : (( يعني تقصد أذاعة لندن وأمريكا  تجذب , وأذاعتنه تكول الصدك ؟ )) , فيجيبه الرفيق عبد الخالق متأففا وبسرعة : (( نعم )) , فيرد عليه السائل بكل برود أعصاب : (( وين أكو هلشي رفيقي ؟ )) , ليثور الرفيق السامرائي بوجهه ويطلب منه عدم الكلام مجددا .

رافقت الصناعة الإذاعية أحداث العالم , وكانت اذاعة  الـ(( بي بي سي )) مثلا , قد صمدت في زوالها البطيء أكثر مما توقع الناس , بسبب مهارتها المهنية وأسلوبها المائل إلى الموضوعية , والخالي من الشتائم والتحريض المباشر , التي جعلتها تتفوق على جميع الإذاعات المشابهة , لكن أفول العصر الإذاعي كان حتمياً , وكما أفل الرفيق من الحويجة, حيث أخبرني الأستاذ عدنان أنه ظل يحميه من سقطات كلامه الصادق والبريء , لحين انتقاله أي عدنان لمسؤولية أخرى , أذ سمع بعدها انه لم يعمر طويلا في الحزب لعدم وجود من يفهمه او يلتزمه .