نعم لم يعد في القوس منزع ، ولقد بلغ السيل الزبى ، وجاوز الحزام الطبيين وأصبح إنطلاق الحملة الوطنية الكبرى ضد تجارة المخدرات والتعاطي والترويج والإدمان لزاما وواجبا شرعيا وأخلاقيا وقانونيا وتربويا ملزما لا مناص ولا مفر منه البتة، ولن يعفى أحد قط من تلكم المسؤولية بدءا من الأسرة النواة ، فالعائلة الكبيرة الممتدة ، فشيوخ العشائر ،فالمرجعيات الدينية، فالمدرسة ، فالجامعة ،فالصحافة المقروءة والمرئية والمسموعة ، فمنابر الجمعة ودور الإفتاء الشرعية وعلى منوالها جميع الدوائر والمؤسسات الحكومية والأهلة وكلها مسؤولة عن هذه الحملة التي آن أوان انطلاقها عاجلا غير آجل مشفوعة بطباعة البوسترات والمطويات وتعليقها في كل مكان ،وتوزيع النشرات والكراسات التي تحذر من خطر المخدرات بين الأفراد والمجتمعات، زيادة على إنتاج البرامج التوعوية والتثقيفية ، الاذاعية منها والتلفزيونية المعنية بهذا الشأن وذلك بالتزامن مع تشديد القوانين وتكثيف الحملات الأمنية والرقابية لتفكيك شبكات المخدرات ومطاردة عصابات الجريمة المنظمة وبما يتماهى وحجم الكارثة التي عصفت بالعراق قبل أن تخرج الأمور عن نطاق السيطرة وبما لاينفع معه الندم ولا عض الأنامل على ما فرطنا وأغفلنا!
وليس من نافلة القول التذكير بمقولة شهيرة منسوبة للأديب الفرنسي فيكتور هوغو ،الملقب بشكسبير فرنسا تتحدث عن حرب الأفيون التي شنتها كل من فرنسا وبريطانيا بمساعدة أميركا على الصين ولسبب قد لا يخطر على بال العقلاء خلاصته، أن ” الصين كانت قد حظرت كليا تهريب وتصدير ودخول الأفيون الذي تشرف بريطانيا والتي قيل فيها قديما”إذا رأيت سمكتين تتقاتلان في النهر فأعلم بأن وراء ذلك انكلترا” على زراعته في الهند المجاورة بغية تصديره وتهريبه الى الصين بعد أن تحول أكثر من 120 مليون صيني الى مدمن أفيون حيث لا إنتاج ولا صناعة ولا زراعة ولا تعلم ولا تعليم ، وإنما مجرد مخلوقات خاملة وهائمة وغائبة عن الوعي تتعاطى الأفيون ليلا ونهارا ، سرا وعلانية بإنتظار حتفها لا أكثر، تماما كما فعل القات الذي قضى على مزارع البن في اليمن ،وكما يفعل الكوكايين والهيروين بشعوب أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية، وبما يُخشى أن تفعله حبوب الكريستال والكبتاغون”حبة صفر واحد” اضافة الى المخدرات الصناعية والطبيعية بالعراقيين مستقبلا !
وأذكر وفي عام 2003 أني قد يممت وجهي متأبطا أوراقي لإجراء تحقيق صحفي استقصائي تجاه مركز علاج الادمان الدوائي والكحولي في ساحة الأندلس وسط العاصمة بغداد فسألت يومئذ القائمين على ادارة المركز عن نسب المدمنين على المخدرات فكانت الاجابة القاطعة بأنها = صفرا لأن عقوبة الاتجار بالمخدرات كانت الاعدام شنقا حتى الموت، وجل حالات الإدمان في العراق حتى ذلك الحين كانت محصورة بالادمان الكحولي على الخمور بأنواعها ، إضافة إلى إدمان بعض المسكنات والمهدئات المخصصة للامراض العقلية والنفسية وعلاج الفصام والاكتئاب الحاد ، فضلا عن الأدوية التي تحتوي على نسبة من الكحول كالتوسيرام، وبعض المواد الطيارة كالتنر والاسيتون ونحوها ، أما الكرستال، والهيروين ،والكوكايين ، والكراك ، والترياق ،والقات وبقية الحبوب والمهلوسات فهذه لا وجود لها على الاطلاق !
ولعل أغرب ما في كارثة الإدمان الدوائي والكحولي محليا هي تلك الحرب الضروس القائمة اليوم على قدم وساق بين تجار الخمور من جهة ، وبين تجار المخدرات وفي مقدمتها الكريستال والكبتاغون الذي اكتشفه اليابانيون وطوره هتلر كمنشط لجنوده في الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى، حيث يتنافس الطرفان ” تجار الخمور والمخدرات ” لتحقيق أعلى قدر من اﻷرباح على حساب الثوابت والقيم والفضيلة والضرورات الخمس التي أوجب الدين الحنيف حفظها من كل عابث ” حفظ العقل ، النفس ، الدين ، المال ، العرض ” ولعل تدمير الضرورات الخمس وما يترتب عليها من آثام لا تحصى هو غايتها ومبتغاها إضافة إلى جني الارباح الفلكية ، ويحاول كل منهما قدر المستطاع كبح جماح اﻵخر وتحجيم تجارته بوسائل شتى .
وألفت إلى أن الاحصاءات الطبية الأخيرة كلها تؤكد بأن 95 % من جرائم الاغتصاب والقتل والتحرش والسلب والنهب والانتحار سببها المسكرات والمخدرات ، ناهيك عن الحوادث المرورية المروعة التي يذهب ضحيتها الآلاف اضافة الى الامراض المستعصية السيكولوجية والفسيولوجية الناجمة عنهما وقلة الإنتاج ، الكسل ،الخمول ، البطالة ، الرسوب ، عقوق الوالدين ، قطيعة الأرحام ،ترويع اﻵمنين ، زد على ذلك حجم الجهود والموازنات المالية الطائلة المبذولة لملاحقة المتعاطين والمتاجرين والمروجين ة ومحاولة علاجهم وإعادة تأهيلهم بعد رحلة إدمان مروعة لأسباب عدة لعل أصدقاء ورفقاء السوء في مقدمتها !
ولا شك بأن البطالة تلعب دورًا مهمًا في هذا المجال،ما يجعل المتعاطي يهرب من واقعه الاجتماعي والاقتصادي المرير إلى الإدمان، فضلًا عن تأثير وسائل الإعلام المشبوهة في الترويج لهذه الظاهرة والضغوطات النفسية والشعور بالملل، والفراغ وعدم القدرة على مجاراة الواقع وتلبية الحاجات ، وقلة الكفاءة وحب المجازفة وغياب الوازع الديني، والتفكك الأسري، فكلها عوامل تدفع باتجاه الإدمان الكحولي والدوائي وإلى تعاطي المخدرات بأنواعها وبالأخص حبوب الكبسلة ولا نغفل عن أصدقاء السوء والمروجين ، فلهؤلاء الدور الأكبر في جر أصحابهم إلى هاوية المخدرات السحيقة.