عندما لا تبلغ الحكومة سن الرشد

عندما لا تبلغ الحكومة سن الرشد

ذكر سليمان فائق عن أحوال العراق عام 1831 م “ إن الدولة العراقية كانت ترى المخلص ذليلا، والخائن المهين في أعلى المراتب، وأرقى المنازل، مما أدى إلى فتور الهمم، بل موت العزائم“. (مرآة الزوراء).

لا نحيد عن الحقيقة إذا قلنا أن الشعب العراقي في ظل الظروف الحالية القاسية التي يعيش فيها من جهة وفشل الحكومة ومجلس النواب العراقي في تنفيذ العهود التي قطعوها على أنفسهم وأقسموا على تنفيذها فحنثوا بقسمهم ولا عجب، فقد تبين ان الأحزاب الإسلامية اقل ايمانا من الأحزاب الملحدة من جهة ثانية، كما ان الشعارات التي طرحوها خلال توليهم مسؤولياتهم الرسمية كانت فارغة المحتوى، بل ولدت نوعا من أزمة الثقة بين تلك الأحزاب السياسية والشعب العراقي.

لا شك أن الشعب العراقي يتحمل جزءًا كبيرا من المسؤولية في الوضع الذي وصل اليه من خلال الولاء المطلق لتلك الأحزاب لأسباب طائفية وعنصرية وشراء الذمم، من خلالالانتخابات والاستفتاءات السابقة، وتأثير المرجعيات المرجعيات الدينية حيث انقادوا انقياد القطيع لها دون تبصر او تفكير، تحت يافطات رفع الحيف عن الشيعة والأكراد وترويج قيم الديمقراطية والوعود المعسولة بتوزيع الثروات عليهم كغنائم وليس ثروة وطنية عامة تخص كل الشعب بلا استثناء

كشفت الظروف أن الولاءات كانت بنزعة طائفية وقومية اتسمتبهامشيتها وسطحيتها وآنيتها، فهي أشبه بالبراكين الثائرة من حيث اندفاع سيولها ولكنها لن تلبث طويلاً فتهمد وتخبواوترجع الى الهدوء والسكينة. ان التأريخ يحدثنا بالكثير من الولاءات الشعبية السريعة التي خرجت عن إطارها الطبيعي لتتحول الى تيارات معاكسة أو تتشتت في اتجاهات متباينة، وقد تشكل خطورة الى حد ما إذا كانت الاتجاهات متعارضة مع مصلحة البلد وتهدد بدفعه الى حافة الانهيار، بمعنى أن الدروس المستقاة من التأريخ تتطلب من الشعوب أن تأخذ التغييرات الكبرى والانعطافات التأريخية في مسارها بنوع من الترقب والحذر قبل أن تقدم ولائها المطلق لآية جهة كانت وتحت أية مسميات دينية او سياسية، وكلما قدمت الشعوب الولاءات بشكل تدريجي يتوافق مع المنطق السليم ومصلحتها، كلما كانت النتائج أفضل، لأنها تتيح الفرصة المناسبة لملامسة الإنجازات والتغيرات النوعية والكمية المتحققة، ومدى إمكانية نقل الشعارات من الخانة الكلامية الى الخانة العملية، من المثالية الى الواقعية، عند ذاك يكون ردّ الفعل الشعبي تجاه القوى الحاكمة متناسباً طردياً مع إنجازاتها، فتزداد نسبة الولاء والثقة بها مع تزايد إنجازاتها للشعب، والعكس صحيح.

ربما هذا الأمر يقودنا الى الرجوع الى قراءات سابقة قد تنفع في عراق اليوم، ولعل كتاب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو المسمى ( العقد الاجتماعي) يمثل أفضل دراسة للعلاقةبين الحكومة والشعب ويمكن تطبيقها على العراق كنموذج حيّ، فقد اعتبر روسو ان الدولة ترتبط مع الشعب بعقد اجتماعي فالشعب هو الذي أختارها بغض النظر عن طبيعة هذا الاختيار والمؤثرات فيه، لذلك فأنه يتنازل عن بعض حقوقه وحرياته لحكومته، مقابل ذلك تفرض الحكومة هيبتها على الشعب من خلال إدارته وتحقيق آماله وطموحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وان تحتكر الحكومة العنف في مواجهة ما يهدد الشعب ومصالح البلد. وطالما أن العقد شريعة المتعاقدين فأن أخلال الدولة بواجباتها ومسؤولياتها الوطنية كفيل بأن يدفع الشعب الى نقض الاتفاق معها وركلها الى خارج دفة الحكم والاحترام، وإنشاء عقد جديد مع من هم أجدر واكفأ واحرص على مصالحهم، للحفاظ على مقدراته وثرواته وكرامته. ذكر الجبرتي” يقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية”. (عجائب الآثار1/22).

عندما تؤمن الحكومة بعمق جذور شعبها وإصالته وحضارته وقدرته وصلابته وقضيته، يمكنها أن تصمد بوجه المخططات الشريرة سواء كانت مصادرها داخلية أو خارجية! و

عندما تؤمن الحكومة بقدرات الشعب الخلاقة وإمكاناته وتوظفها لخدمة الوطن والشعب كوحدة متماسكة وبسياج واحد، فأنها تقترب من قلوب شعبها وكلما قصرت من المسافة بينها وبينه كلما ازدهرت صورتها نوراً في عينه.

عندما تعتبر الحكومة حقوق الشعب اهم من حقوقها،وواجباتها أكبر من واجباته، فأنها يمكن أن تقوده الى برّ الأمان وتحقق أمانيه وتطلعاته الوطنية وتجد قواسم مشتركة تجمعها معه.

عندما تدرك الحكومة أن مصيرها هو مصير شعبها، ومصير شعبها هو مصيرها، فأنها يمكن أن تمضي في مشاريعها الوطنية حتى في حالة وجود انحسار جزئي من أطراف شعبية أخرى وهو ما يدعى بالمعارضة.

عندما تبني الحكومة مشروعها الوطني بحقائق على الأرض، فأن البنيان سيكون شديداً ومحكماً ومحصنا يؤمن لها الصمود أمام التصدع والتشقق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أما إذا كان البناء قائماً على أوهام تحييها وتغذيها وتحدد مساراتها أجندات خارجية فأن سقف البناء سيكون ضعيفاً وسينهار على رؤوس ساكنيه شعباً وقيادة.

عندما يتناغم نبض الحكومة مع نبضات الشعب، وتتوحدان في إيقاع واحد جميل، فأن المصلحة الوطنية ستحقق وتتقدم وتنعكس على رفاهية الشعب، ورضاه على حكومته، والعكس صحيح.

عندما تكون الحكومة مثل شجرة ضاربة جذورها في اعماق تربة الوطن، وتتغذى بمائه الصافي وتنعم بمناخه الدافئ فأنها ستجود بثمارها وعطائها، وفي نفس الوقت ستجد العناية والعطاء المتبادل ممن تغذيهم، إما إذا كانت قصبة ضعيفة بجذور ضعيفة فأنها ستهتز أمام اية موجة ريح وتنحني وتركع أمامه كلما اشتدت، وسيكون مآلها الموت والتفسخ!

عندما تمتلك الحكومة روحاً عظيمة في المبدئية، ومثل عليا في السمو والتضحية، وبذل الجهود لبث روح التقدم والازدهار فأنها ستتمكن بسهولة أن تتجاوز مخاطر الخطوب والمحن مهما اشتدت مخاطرها، او تقربت منها.


عندما يكون أيمان الحكومة بحقوق الشعب مهزوزاً، وتتبرص الفرص للاستفادة من المزايا التي تؤمنها لها قيادتها في الحكم على حساب الشعب، فأنها بذلك ستكون كالطفيليات التي تعيش على سطح البرك والمستنقعات.

عندما تتبنى الحكومة قواعداً لأفكار عبثية وفوضوية مصحوبةبنزعة قومية وطائفية، ولا تمتلك مقومات اخلاقية وثقافيةواجتماعية تجعل الشعب يقتدي برجالها، فأن النتائج ستكون وبال مخيف، وعندما لا يتوافق حسها الوطني مع حسالشعب ويتحدان في بوتقة واحدة، فاقرأ الفاتحة على المصالح العليا.

عندما تعامل الحكومة شعبها كعجل تضعه تحت إقدامها وتنحره في مراسم الأعياد وبقية المناسبات على مرأى ومسمع الجميع ،وتقيم منه وليمة دسمة لقوات الأحتلال (الأمريكي والإيراني والتركي في العراق مثلا)، سيلتهم الأعداء الوليمة كلها، ولا يتركوا للشعب حتى فتات الطعام.

عندما تتصرف الحكومة كبائعة هوى تلف جسدها بعباءة وجبة وحجاب واستحياء أمام شعبها، وتخلعها بعد اجتياز أبواب المنطقة الخضراء و ترميها بها تحت الأقدام عارضة جسدها على قوات الأحتلال وعملائه ، بادر الى تحضير كفنها غير مأسوف عليها.

عندما نتوخى الوصول الى الحقيقة أمام ما يحدث في العراق،فأنه يسعنا القول أنها مشكلة احتلال ثلاثي (الولايات المتحدة، ايران وتركيا) بغيض بشع الصورة، ومشكلة حكومة طائفية مقيتة بوزارات هزيلة ومجلس نواب يعبر عن نفسه ومصالحه ومزاياه، ولا يعبر عن مصلحة الشعب الذي لم تنتخبه اغلبيته، (نسبة المشتركة في الانتخابات الأخيرة اقل من 18%)، وهي مشكلة شعب متخلف تتحكم به الاهواء الطائفية والقومية والانتهازية، ومشكلة وطن بكل اعتباراته السياسية والجغرافية والتأريخية والاقتصادية والحضارية، ومشكلة ميليشيات إرهابية ذات أجندات خارجية لا يردعها وازع ديني أو أخلاقي أو وطني، بل هي الحكومة العميقة التي تتحكم بكل مقدرات البلد، اما الحكومة الحقيقة فيه اشبه بغطاء بالوعة، تغطي الجيف والطفيليات الولائية.

عندما لا تبلغ الحكومة سن الرشد، سيبقى الشعب يدور في متاهة الأعمال والأقوال الصبيانية.

الخاتمة

ذكر ابو حامد الغزالي” قال علىّ بن أبي طالب لجماعته: أأخبركم بارجي آية في القرءان؟

قالوا بلى. فقرأ عليهم سورة الشورى/30 ((وما أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)). (إحياء علوم الدين12/155).