لا تزال القبلية تلعب دورًا مهمًا في العراق، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو حتى الاقتصادي. ورغم التحولات التي شهدها العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003، وصعود الدولة الحديثة، إلا أن العشائر والقبائل ما زالت تحتفظ بنفوذ قوي، سواء في المناطق الريفية اوالمدن. وسبب ذلك أن الإرادة السياسية باعتبارها إرادة فاعلة للدولة، هي إرادة شكلية وليست حقيقية في العراق، وبالتالي فإن غياب هذه الإرادة يعوق جهود تحجيم سطوة العشائر وحصر السلاح بيد الدولة، مما يؤدي إلى ضعف سيادة القانون ويعزز من هيمنة العشائر. لذلك صارالالتزام بالعُرف العشائري يتفوق على الالتزام بالقانون في المجتمع العراقي، لاسيما في القضايا الأمنية والاجتماعية، ويستند هذا العرف إلى قوة العشائر ونفوذها في الدولة ومؤسساتها السياسية والأمنية، حيث تفرض الإرادة القبلية تأثيرها على القرارات الحكومية، كما أن بعض مؤسسات الدولة تُحتكر لصالح أبناء العشائر، مما يؤدي إلى تجاوزات على القانون. صحيح أنه في بعض الحالات، قد تعكس الروابط القبلية تراثًا ثقافيًا عريقًا وتوفر نظام دعم اجتماعي يُساهم في التماسك والهوية، لكن في حالاتكثيرة أخرى يمكن أن تُعيق التطور إذا أدت إلى التفرقة أو النزاعات التي تعيق التقدم السياسي والاقتصادي..
ويجب ألا نغفل أن هناك تناقض بين التطور الحاصل في كل المجالات في العصر الحالي عالمياً، ونجد بالمقابل مجتمع لا يزال يعيش الحالة القبلية ويعتمد العرف العشائري في حل المشكلات بدل قوانين الدولة، وعند التعمق في الأسباب، نجد أن استمرار الأعراف القبلية والعشائرية في بعض المجتمعات، رغم التطور الحاصل عالميًا، يعود إلى عدة عوامل مترابطة، منها:
ضعف مؤسسات الدولة: عندما تكون مؤسسات الدولة غير فعالة أو غير قادرة على فرض القانون بعدالة وسرعة، يلجأ الناس إلى الأعراف القبلية كبديل لحل النزاعات وتحقيق العدالة.
الفراغ القانوني أو عدم الثقة بالقضاء الرسمي: بعض المجتمعات ترى أن الأنظمة القانونية الحديثة بطيئة أو منحازة، بينما العرف العشائري يُقدم حلولًا أسرع وأكثر توافقًا مع ثقافة المجتمع المحلي.
التأثير الثقافي والتاريخي: القبلية ليست مجرد نظام اجتماعي، بل هي جزء من الهوية والتقاليد الراسخة، مما يجعل تجاوزها أمرًا صعبًا حتى مع التطور في مجالات أخرى.
الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية: في المناطق التي تعاني من الفقر أو قلة فرص العمل، تبقى القبيلة مصدر دعم اجتماعي واقتصادي، مما يعزز استمرارها كمنظومة أساسية للحياة اليومية.
ضعف التعليم وانتشار الأمية: كلما زاد مستوى التعليم وانتشار الفكر المدني، زادت قدرة المجتمع على الانتقال من الأعراف التقليدية إلى القوانين الحديثة، لكن في بعض المناطق لا يزال التعليم محدودًا، وهذا يعزز بقاء العرف العشائري.
إذن، المشكلة ليست مجرد تمسك بالعادات، بل تتعلق بمدى قوة الدولة، وكفاءة قوانينها، ومدى ثقة الناس بها. فحينما تصبح الدولة قوية وقادرة على توفير العدالة للجميع، يقل الاعتماد على الأعراف القبلية تلقائيًا.
وتتضح معالم القبلية ودور القبيلة في بنية المجتمع العراقي وبالتالي في عمق الدولة ومؤسساتها في الظواهر التالية:
القبيلة والعشيرة لا تزالان تشكلان جزءًا أساسيًا من هوية الأفراد في العراق. هناك روابط قوية بين أفراد القبيلة، مثل التضامن في الأزمات وحل النزاعات من خلال الأعراف العشائرية. القضاء العشائري لا يزال يُمارس في العديد من المناطق، حيث يلجأ الناس إلى شيوخ القبائل لحل النزاعات بدلًا من المحاكم الرسمية. هذا في الجانب الاجتماعي، أما في الجانب السياسي فأن العديد من السياسيين العراقيين يعتمدون على دعم عشائرهم في الانتخابات، خاصة في المناطق ذات الطابع العشائري القوي. كذلك الحكومة أحيانًا تلجأ إلى شيوخ القبائل لضبط الأمن أو كوسيط بين الدولة والمجتمع. بعد عام 2003، استعادت بعض العشائر نفوذها بسبب الفراغ الأمني، وبرز دورها في محاربة الإرهاب، مثل تشكيل “الصحوات” لمواجهة تنظيم القاعدة ثم لاحقًا داعش.. وللقبلية وجودهاالفعال في الجانب الاقتصادي لذلك نجد أن بعض العشائر تسيطر على موارد اقتصادية معينة، مثل الأراضي الزراعية أو حتى بعض المشاريع التجارية. هناك ارتباط بين القبلية والتوظيف، حيث يُفضل في بعض المناطق تعيين أبناء العشيرة في وظائف معينة لضمان الولاء والتضامن. إضافة إلى ما سبق هناك حالات من استخدام العشائرية كوسيلة لحماية المجرمين أو تجاوز سلطة الدولة. وفي بعض المناطق، أدى الصراع بين القبائل إلى نزاعات مسلحة وعمليات انتقامية.
القبلية في العراق ليست مجرد ظاهرة اجتماعية تقليدية، بل هي جزء من النسيج السياسي والاقتصادي أيضًا. وعلى الرغم من محاولات الحد من تأثيرها لصالح الدولة الحديثة، إلا أنها لا تزال قوية، وتلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل الواقع العراقي. وبالتالي فإن القبلية يمكن أن تساهم في إضعاف الدولة في العراق بعدة طرق، فقد صار من البديهي أن النفوذ العشائري يتعارض مع بناء دولة حديثة تقوم على القانون والمؤسسات. رغم أنه قد يلعب أدوارًا إيجابية في بعض الأحيان. هذا التأثير يعتمد على كيفية تفاعله مع مؤسسات الدولة والقانون. إليك بعض الطرق التي تساهم فيها القبلية في إضعاف الدولة:
ضعف سلطة الدولة والقانون وانتشار القضاء العشائري؛في العديد من المناطق، يفضل الناس اللجوء إلى القضاء العشائري لحل النزاعات بدلاً من المحاكم الرسمية. هذا يقلل من هيبة الدولة ويضعف النظام القضائي، حيث يتم التعامل مع القضايا بناءً على العادات والتقاليد وليس على القوانين الرسمية. استمرار القضاء العشائري يقلل من هيبة الدولة ويجعل القوانين الرسمية أقل فاعلية. ففي كثير من الحالات، يتم حل النزاعات من خلال الأعراف العشائرية بدلاً من المحاكم، ما يؤدي إلى تجاهل النظام القضائي الرسمي. بعض العشائر تفرض أحكامها حتى في القضايا الجنائية الكبرى، مثل القتل والثأر وبالتالي يؤدي إلى تقويض دور الأجهزة الأمنية والقضائية.
التأثير على العملية السياسية؛ تعتمد بعض الأحزاب والشخصيات السياسية على دعم عشائري للفوز في الانتخابات، مما يؤدي إلى المحسوبية والفساد بدلاً من الكفاءة في إدارة الدولة. يتم أحيانًا تعيين مسؤولين على أساس الانتماء العشائري بدلاً من المؤهلات، مما يضعف المؤسسات الحكومية وهيمنة المحسوبية والفساد. في الانتخابات والوظائف الحكومية، يكون الانتماء العشائري عاملاً رئيسيًا في التعيينات والترقيات بدلاً من الكفاءة والمؤهلات. انتشار المحسوبية والواسطة يؤدي إلى ضعف مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على تقديم الخدمات بكفاءة. هذا يعزز ثقافة “المحاصصة” العشائرية التي تشبه الطائفية، ما يخلق بيئة غير عادلة تُضعف فرص بناء دولة قائمة على المساواة والمواطنة.
استغلال العشائر من قبل الأحزاب السياسية والجماعات المسلحة؛ العديد من الأحزاب تستغل القبلية للحصول على الدعم السياسي، مما يؤدي إلى استمرار النفوذ العشائري في الحياة السياسية. الجماعات المسلحة والمليشيات تستخدم الولاءات العشائرية لتعزيز قوتها، ما يُضعف سلطة الدولة ويؤدي إلى مزيد من الانقسام السياسي والأمني. في بعض المناطق، تُستخدم العشائر كأدوات في صراعات السلطة، وذا يزيد من تفاقم الأزمات بدلاً من حلها.
النزاعات العشائرية وزعزعة الأمن؛ بعض العشائر تمتلك أسلحة وتتصرف كجهة شبه مستقلة عن الدولة، وهذا يخلق تحديات أمنية كبيرة. كما أن النزاعات بين العشائر قد تتحول إلى مواجهات مسلحة، تسبب ضعف قدرة الدولة على فرض الأمن وتهديد السلم المجتمعي. هذه النزاعات قد تؤدي إلى تهجير السكان، وتعطل التنمية الاقتصادية، وتزيد من التوترات الاجتماعية.
الاقتصاد غير الرسمي وسيطرة العشائر على الموارد؛بعض العشائر تسيطر على أراضٍ زراعية أو موارد اقتصادية خارج سيطرة الدولة، الأمر الذي يضعف دور الحكومة في إدارة الموارد العامة. هناك حالات لفرض عشائر “إتاوات” على بعض المشاريع أو الشركات، مما يعرقل التنمية الاقتصادية ويترك التأثير السلبي على الاقتصاد والاستثمار؛ بعض العشائر تفرض نفوذها على الموارد الاقتصادية، مثل الأراضي الزراعية والتجارة، وهذايحد من سيطرة الدولة على الاقتصاد. وفي بعض المناطق، تُفرض إتاوات ورسوم غير قانونية على المشاريع الاقتصادية، وهذا سبب يجعل بيئة الأعمال غير مستقرة ويؤدي إلى هروب المستثمرين. بالإضافة إلى أن النزاعاتالعشائرية تعطل مشاريع البنية التحتية والتنمية، ما يعرقل جهود الدولة في تحسين الخدمات العامة.
استغلال القبلية من قبل الجماعات المسلحة؛ بعض الجماعات الإرهابية والمليشيات استخدمت النفوذ العشائري لكسب التأييد في مناطق معينة. هذا يعقد جهود الحكومة في مكافحة الإرهاب، حيث تحتاج إلى التعامل مع زعماء العشائر بدلاً من فرض القانون مباشرة. كما أن بعضالعشائر تمتلك أسلحة ثقيلة وتفرض قوانينها الخاصة، مما يضعف احتكار الدولة لاستخدام القوة.
هل هناك جانب إيجابي للقبلية؟ في بعض الأحيان، تساهم القبلية في الحفاظ على الاستقرار وحل النزاعات بطريقة أسرع من الدولة. بعض العشائر دعمت جهود محاربة الإرهاب، مثل “الصحوات” التي ساعدت في التصدي لتنظيم القاعدة وداعش.
القبلية في العراق يمكن أن تكون سلاحًا ذا حدين. إذا تم دمجها ضمن مؤسسات الدولة بطريقة منظمة، يمكن أن تكون عامل استقرار، ولكن إذا استمرت في العمل كمؤسسة موازية للدولة، فإنها ستؤدي إلى إضعافها وتقليل قدرتها على فرض القانون وإدارة شؤون البلاد بفعالية.
نستنتج من كل ما سبق أن قيام دولة مدنية في العراق يواجه عدة مخاطر نتيجة استمرار قوة القبلية وتأثيرها على مختلف جوانب الحياة. هذه المخاطر تجعل من الصعب بناء دولة حديثة تعتمد على القانون والمؤسسات بدلاً من الولاءات العشائرية. أن المخاطر التي تشكلها القبلية على الدولة المدنية كثيرة ومن أهمها إضعاف الهوية الوطنية وتقوية الولاءات البديلة؛ في ظل سيطرة القبلية، يكون الولاء للعشيرة أقوى من الولاء للدولة، ما يعرقل بناء هوية وطنية موحدة. كما أن الانقسامات العشائرية تعرقل المشاريع الوطنية وتمنع التعاون بين فئات المجتمع المختلفة. كما أن النزاعات العشائرية تعزز النزاعات بين المكونات العراقية المختلفة ويتضعف فرص تحقيق وحدة وطنية قائمة على المواطنة بدلاً من الهويات الفرعية.
القبلية في العراق تشكل عقبة كبيرة أمام بناء دولة مدنية حديثة، حيث تعطل سيادة القانون، تعزز الفساد، وتُضعف الهوية الوطنية. ومع ذلك، يمكن توظيف العشائر بشكل إيجابي إذا تم دمجها ضمن مؤسسات الدولة بطريقة تدعم الاستقرار والتنمية بدلاً من تقويضهما. بناء دولة مدنية يتطلب إصلاحات جذرية تشمل تقوية المؤسسات، والحد من نفوذ العشائر في السياسة، وتعزيز الهوية الوطنية القائمة على المواطنة بدلاً من الولاءات القبلية.