إسرائيل، الكيان الذي وُلد من رحم المشروع الاستعماري الغربي، تواجه اليوم واحدة من أصعب المراحل في تاريخها، حيث تعيش أزمة استراتيجية تهدد استمراريتها على المدى البعيد. لفهم طبيعة هذه الأزمة، لا بد من التعمق في جذور نشأة إسرائيل ودوافع الغرب في دعمها اللامحدود عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا. فقد كان تأسيس إسرائيل جزءًا من مخطط استعماري أوسع يهدف إلى الهيمنة على الشرق الأوسط ومنع أي نهوض إسلامي أو عربي يعيد للأمة مكانتها التاريخية.
لطالما شكّلت النهضة الإسلامية هاجسًا لدى القوى الغربية، حيث شهد العالم الإسلامي خلال فترات ازدهاره تفوقًا حضاريًا وسياسيًا وعسكريًا امتد لعصور، مما جعل الغرب ينظر إليه كتهديد وجودي. فمن الحروب الصليبية إلى سقوط الأندلس، ظل الخوف من استعادة المسلمين قوتهم حاضرًا في العقلية الاستعمارية الأوروبية. وقد تعزز هذا الهاجس مع صعود الدولة العثمانية، التي تمكنت من السيطرة على أجزاء واسعة من أوروبا، مما دفع القوى الغربية إلى تبني استراتيجيات لتحجيم أي قوة إسلامية قد تتجدد في المستقبل. كان غزو فرنسا لمصر في حملة نابليون عام 1798 جزءًا من هذا المخطط، إذ لم يكن الهدف فقط توسيع رقعة الأراضي الفرنسية، بل أيضًا قطع أوصال الأمة العربية والسيطرة على الممرات البحرية الحيوية بين الهند وأوروبا. ومع فشل فرنسا في تحقيق هذا الهدف، أدركت بريطانيا الأهمية الاستراتيجية لمصر وبلاد الشام، فعملت على السيطرة عليهما لضمان أمن مستعمراتها، خصوصًا الهند، التي كانت تمثل جوهرة التاج البريطاني.
بعد دخول بريطانيا إلى فلسطين عام 1917، تلاقت مصالح القوى الاستعمارية مع الحركة الصهيونية، حيث وجدت بريطانيا في المشروع الصهيوني أداة مثالية لخدمة أهدافها في المنطقة. جاء وعد بلفور عام 1917 ليؤكد هذا التحالف، إذ منحت بريطانيا لليهود وطنًا في فلسطين رغم عدم امتلاكها أي شرعية قانونية أو تاريخية لفعل ذلك. كان الهدف الاستراتيجي هو إنشاء كيان وظيفي يعمل كحاجز يفصل بين آسيا وإفريقيا، ويمنع أي تواصل جغرافي بين الدول العربية. إضافةً إلى ذلك، أرادت بريطانيا أن يكون هذا الكيان مرتبطًا بها وبالغرب بشكل كامل، ليشكل قاعدة متقدمة تحمي المصالح الاستعمارية في المنطقة. إذن، فإن فكرة إنشاء إسرائيل كانت نتاج الفكر الاستعماري البريطاني، وتهدف إلى تقليل خطر إعادة بناء أمة واحدة تسيطر على المنافذ البحرية التجارية العالمية، وخصوصًا بريطانيا وأوروبا.
منذ تأسيسها عام 1948، خاضت إسرائيل سلسلة من الحروب مع الدول العربية، أبرزها حرب 1948 التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، وحرب 1967 التي شهدت احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان بفضل التفوق العسكري الذي منحته الولايات المتحدة وفرنسا لإسرائيل، وكذلك حرب 1973 التي أظهرت قدرة العرب على تحقيق مكاسب عسكرية لكنها أكدت في النهاية أهمية الدعم الغربي لإسرائيل، حيث تدخلت أمريكا لإنقاذها بضخ كميات هائلة من الأسلحة خلال الحرب. خلال هذه الحروب، كان التفوق العسكري الإسرائيلي دائمًا نتيجة مباشرة للدعم اللامحدود الذي قدمه الغرب، سواء من خلال الأسلحة أو المساعدات المالية أو الحماية السياسية. إذن، فإن الدعم الغربي هو الركيزة الأساسية لاستمرار إسرائيل.
من قراءة السياق التاريخي، نفهم أن إسرائيل ليست مجرد دولة، بل هي مشروع استراتيجي غربي في الشرق الأوسط، ولهذا السبب تحظى بدعم هائل من الدول الكبرى في مختلف المجالات. عسكريًا، تمتلك إسرائيل أحدث الأسلحة بفضل المساعدات العسكرية الأمريكية التي تبلغ مليارات الدولارات سنويًا. تفوقها الجوي والصاروخي والاستخباراتي ناتج عن التكنولوجيا التي تزودها بها واشنطن وأوروبا، من خلال برامج التعاون العسكري. أما اقتصاديًا، فقد تلقت إسرائيل منذ تأسيسها أكثر من 150 مليار دولار من المساعدات الأمريكية وحدها، ومع تدفق الاستثمارات الأجنبية، خصوصًا في قطاع التكنولوجيا، أصبح اقتصادها قويًا رغم الأزمات السياسية والأمنية. سياسيًا، تحصل إسرائيل على الدعم السياسي والحماية المطلقة في الأمم المتحدة، حيث تمنع الولايات المتحدة أي قرارات تدينها. كما أن تطبيع العلاقات مع بعض الدول العربية لم يكن ليحدث دون ضغوط غربية.رغم كل هذا الدعم، تواجه إسرائيل اليوم تحديات غير مسبوقة تهدد استقرارها ومستقبلها، ومنها التغيرات في النظام العالمي، حيث أن تراجع الهيمنة الأمريكية قد يؤثر على الدعم المستقبلي لإسرائيل، وصعود قوى جديدة مثل الصين وروسيا قد يغير ميزان القوى في الشرق الأوسط. يضاف إلى ذلك المقاومة المتصاعدة، فشل إسرائيل في القضاء على حركات المقاومة مثل حماس وحزب الله يجعلها تعيش تحت تهديد دائم، كما أن تطور أساليب المقاومة، من الصواريخ إلى الحروب السيبرانية، يقوّض التفوق الإسرائيلي. إضافةً إلى ذلك، يشهد العالم تنسيقًا متزايدًا بين مختلف فصائل المقاومة، مما يعزز قوتها وصلابتها. الانقسامات الداخلية تعد أحد أبرز التهديدات، حيث تصاعدت الخلافات بين العلمانيين والمتدينين، واليمين واليسار، ما يهدد بتفكك الجبهة الداخلية. كما أن ازدياد الاستيطان في الضفة الغربية يضع إسرائيل في مواجهة ديموغرافية خطيرة. التحولات في الرأي العام الغربي هي أيضًا مؤشر خطير، فمع تزايد الانتقادات لإسرائيل في الجامعات ووسائل الإعلام الغربية، وتنامي الحركات التي تدعو لمقاطعتها اقتصاديًا وسياسيًا، تتراجع شرعيتها الدولية.
إسرائيل اليوم ليست الكيان الذي كان يُعتقد أنه “لا يُهزم”. فرغم قوتها العسكرية ودعم الغرب، تواجه تهديدات وجودية قد تجعل استمرارها بنفس الهيمنة أمرًا صعبًا. فهل تستطيع مواجهة المقاومة الفلسطينية واللبنانية والحوثية والعراقية، في ظل وجود عمق شعبي عالمي لهذه المقاومة؟ نعتقد أن إسرائيل أصبحت اليوم أكثر وهنًا، خصوصًا بعد 7 أكتوبر، وما أفرزه ذلك الحدث من نتائج على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، من فقدان الثقة بين الشعب والحكومة. وقريبًا، قد تتحول إلى دولة تعيش في عزلة دائمة عن العالم الخارجي، وخصوصًا مع ظهور الأجيال الجديدة التي تؤمن بحرية الشعوب. إسرائيل اليوم ليست في وضع يسمح لها بالاطمئنان لمستقبلها، فالمتغيرات الدولية والإقليمية تفرض عليها تحديات كبرى، وقد تكون السنوات القادمة حاسمة في تحديد مصير هذا الكيان، الذي نشأ كمشروع استعماري، لكنه يواجه الآن أزمات تتجاوز قدرته على التعامل معها بمفرده.
إننا نؤمن بأن زوال إسرائيل أصبح قريبًا، وقريبًا جدًا