في هذه المقالة، سنواصل الحديث عن الشهر المبارك الكريم وكيف كنا نقضيه في جبهات القتال ونحن صائمون، رغم قساوة الظروف وارتفاع درجات الحرارة. من المعاناة التي كنا نواجهها في هذا الشهر المبارك،
واذكر جيدا أننا كنا نضع كمية من الماء المغلي في الجليكان داخل الخوذة العسكرية التي نرتديها على الرأس بعد غسلها، وننتظر وقت الغروب عسى أن تكون درجة حرارة الماء قد انخفضت قليلاً حتى نتناولها أثناء وجبة الإفطار.
أيام مرت وقد حسبت علينا من ضمن ساعات وليالي العمر، لكنها كانت مأساوية ورغم انها كانت تدخل ضمن مفهوم الواجب الوطني والدفاع عن البلد الا ان الحياة التي كان يعيشها أبناء القوات المسلحة، وخاصة الوحدات القتالية في جبهات القتال، كانت صعبة جداً جداً.
تخيل نفسك، أخي الصائم، أنك تشرب على وجبة الإفطار ماء دافئاً وتأكل التمن والمرق المعد منذ ساعات الظهر ولا يوجد غيره لديك، اما مادة الصمون فانني اجزم ان الاجيال الحالية من المستحيل ان تستطيع تناولها لانها كانت عبارة عن كتلة عجين قوية جدا ولا يمكن مضغها بسهوله لصلابتها وقوتها وما يتبقى من هذه القصعة سيكون وجبة للسحور القادم. نتساءل مع أنفسنا، نحن أبناء ذلك الجيل، كيف كنا نعيش وكيف قضينا أيامنا هذه؟ أسئلة كثيرة تمر في أذهاننا، لكننا نراها اليوم وفي الواقع الذي نعيشه صعبة جداً وليس لها إجابة. فمن يستطيع تحمل هذا الوضع المأساوي بين الخوف والرعب والموت القريب وبين صيام رمضان وبدون أي نوع من الطعام الذي ربما تتمناه أن يكون على وجبة إفطارك؟ والطامة الكبرى أننا كنا نقضي هذا الشهر المبارك بأكمله وربما نضيف أحياناً شهراً آخر فوقه، ونحن لا نرى الحياة المدنية نهائياً لأن موعد الإجازة كان يحدده ظروف المعارك في ذلك القاطع العسكري.
مفارقات كثيرة وكثيرة ربما تحتاج إلى مجلدات كاملة حتى نكتب عنها، لكن كل ما أريد تذكيره هنا هو الحياة التي كنا نعيشها في شهر رمضان المبارك ونحن في جبهات القتال، بعيدون عن الحياة المدنية وبعيدون عن المطاعم والوجبات التي يتناولها الناس في بيوتهم. لا نسمع أذان الإفطار، ولا أذان السحور، وكل ما نسمعه دوماً هو دوي المدافع والطلقات النارية.
فعلاً كان الصبر هو السلاح القوي وباب الإيمان موجود لدى كل الأشخاص الذين كانوا يصومون هذا الشهر المبارك بتلك الظروف. ورغم أننا لم نكن ننتظر فرحة العيد لأنه لا يوجد من يشاركنا تلك الفرحة من الأهل، ولا نعرف إن كنا سنلتقي بهم قريباً أم أن اللقاء قد انتهى…
ما أصعبها تلك الليالي وأنت تذهب إلى أقرب محطة قطار مودعاً أهلك لتصل وحدتك العسكرية ربما بعد يوم كامل من عناء السفر، وتجلس في ذلك الموضع الذي كان أشبه بالقبر، لكنه قدرنا أن نعيش فيه مع حرارة الصيف وأجواء جنوب العراق الملتهبة مع المعارك التي كانت لا ترحم صغيراً ولا كبيراً…
كنا نعيش مع القتل والموت في كل لحظة، ومع هذا كان لرمضان قدسية خاصة داخل نفوسنا، وما زالت ذكرياتنا مع تلك الساعات الصعبة محفورة في عقولنا. وها نحن نرويها لهذا الجيل الجديد، وعليه أن يميز بين من يصوم اليوم ومائدة الإفطار عامرة بأنواع المأكولات وسط عائلته، وبين من كان يصوم وكله شوق لهذا الجمع وهذا اللقاء، ونفسه تشتهي هذه المأكولات التي كانت ممنوعة عليه بسبب الظروف العسكرية التي كانت مفروضة على الجميع…
والى مقالة اخرى ورمضان كريم