لم يفرض الدين الإسلامي عقيدة الإيمان بتوحيد الله ربّا وإلها على أتباعه والداخلين في رحابه جبرا دون تمحيص ولا قسرا دون تفكير ، وكل الذين دخلوا هذا الدين عند آخر نبي فهموا وعقلوا اولا وتصارعوا مع انفسهم وتدابروا مع عقولهم بل ومع من يظنون فيه الحكمة قبل ان يضعوا قدما في طريق الدخول اليه ثم اعتناقه دينا خالصا وعقيدة ثابتة ،
وليس الأمر جديدا مقتصرا على بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام التي ابرزت تلك الميزة وحررتها واقصد ميزة التفكر قبل الخلوص والتدبر بعد الانتماء ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام قضى سنوات من عز شبابه معتزلا في غار اعلى جبل حول مكة يتفكر فيه بالدين الذي ينادي وجدانه ويناسب عقله مبتعدا عن اعتقادات ضالة عاش وسط بيئتها وتفحصها وخالط اهلها و اكل طعامهم وتاجر وتعامل دون ان ينفر عنهم او يتخذ في ذلك قرارا الا بعد ان راجع نفسه و حاكم ما يشاهد بعقله وطابق ذلك في وجدانه فقد تدبر وتفكر قبل الوحي ،
وكان التفكّر حقا اعطاه الله لأعظم انبيائه ورسله تباعا ليأذن لنا باقتفاء آثارهم ولا يدع علينا في العقيدة من حرج فأخبرنا عن خليله إبراهيم عليه الصلاة و السلام ورحلته في التفكر والتدبر ، فلم يستيقظ سيدنا ابراهيم ليجد نفسه حنيفا مسلما بل كان يبحث عن ربّه وسط قوم يعبدون لا يتفكرون بل “يتخذون أصناما آلهة” {قُلۡ أَنَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰٓ أَعۡقَابِنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسۡتَهۡوَتۡهُ ٱلشَّيَٰطِينُ فِي ٱلۡأَرۡضِ حَيۡرَانَ لَهُۥٓ أَصۡحَٰبٞ يَدۡعُونَهُۥٓ إِلَى ٱلۡهُدَى ٱئۡتِنَاۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۖ وَأُمِرۡنَا لِنُسۡلِمَ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} ، فكان ابراهيم عليه السلام يجادل ويحاور متفكرا فقال لأبيه :{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}
يقول العلماء في ذلك انه عليه السلام “انما كان في هذا المقام مُناظرًا لقومه مُبينًا لهم بطلان ما كانوا عليه”* من عبادة الهياكل والأصنام ‘ فهذا التفكر بالعقل “فبيّن في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السَّماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته؛ ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنَّصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه”*
ثم تحوّل الى الكواكب والهياكل “وبيّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادتها او التوسل اليها ، “وهي الكواكب السّيارة السّبعة المتحيرة : القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدّهنَّ إضاءةً وأشرفهنَّ عندهم: الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة”* التي لما رآها طالعة اولا قال ان كان هذا الكوكب ربي فلمَ يغيب وينطفئ الضوء منه {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي لا أقتنع بهم ،
فبيّن ثانيا صلوات الله وسلامه عليه “أنَّ هذه الزهرة لا تصلح للإلهية،”فإنَّها مُسخّرة مُقدّرة بسيرٍ مُعينٍ، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا تملك لنفسها تصرُّفًا، بل هي جرمٌ من الأجرام خلقها”*. فالله تعالى جعل قصة ابينا ابراهيم في التدبر في ملكوته والتفكر في خلقه ليصل الى اليقين العقلي والاطمئنان القلبي وليرشدنا الى اقتفاء تلك الآثار فلا يغوينا الشيطان بافكار صنمية او شركية او الحادية :{وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ، قيل أيضا: “إنه رأى ذلك من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب ، وقيل : لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس فرأى الإبل والخيل والغنم قال : لا بد لها من رب ، ورأى المشتري أو الزهرة ثم القمر”* {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} فها هو النبي العظيم والرسول الكريم يعود الى وجدانه وفطرته بعد ان رفض عقله ان يصدق بالذي لا يخلق ولا يسمع ولا يرى فيتخذه إلها ، فظل قلقا حائرا غير مطمئن حتى يستقر على هداية الله ، فانتقل الى الأكبر ليقطع الحجة {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} وقال محمد بن إسحاق : “وكان [عندها] ابن خمس عشرة سنة” وقيل انه لمّا حاج نمروذا تلك المحاججة التي بهته فيها كان في السن ذاته . فانظر الى حسن التدبر والتفكّر الى أن خلص وأقام الحجة على نفسه وقومه فقال إذ لا عقل و لاحكمة في عبادة الاصنام او الإشراك بالله في الكواكب {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ،
ومهما اختلف المفسرون والعلماء في حال سيدنا ابراهيم ورحلته التدبرية والحوارية بين قول بعضهم “كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان” ، وقال قوم “غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء وقال غيرهم : “وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة بل عرف الرب أول النظر ، قال الزجاج “قد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : “واجنبني وبني أن نعبد الأصنام” وقال جل وعز : “إذ جاء ربه بقلب سليم” أي لم يشرك به قط وقيل” انتهى ، ولكنه اضطر -أي الزجّاج- ان يعترف انه “لما خرج إبراهيم [الصغير] من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه ; فظن أنه ضوءه قال : هذا ربي أي بأنه يتراءى لي نوره ، فلما أفل قال لا أحب الآفلين علم أنه ليس بربه . فلما رأى القمر بازغا ونظر إلى ضوئه قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي وليس هذا شركا . إنما نسب ذلك الضوء إلى ربه فلما رآه زائلا دله العلم على أنه غير مستحق لذلك ، فنفاه بقلبه وعلم أنه مربوب وليس برب” وحينئذ يعود بنا الأمر ان ابراهيم عليه السلام كان يتفكر ويتدبر سواء لنفسه او لقومه ، “إنما قال هذا ربي لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم ; فلما أفل النجم قرر الحجة وقال : ما تغير لا يجوز أن يكون ربا . وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها”* . وقال النحّاس : ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل : نور على نور قال : كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه ، فإذا عرفه ازداد نورا على نور ، وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله ، فعلم أن له ربا وخالقا . فلما عرّفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} وقيل : هو على معنى الاستفهام والتوبيخ ، منكرا لفعلهم . والمعنى : أهذا ربي ، أومثل هذا يكون ربا ؟ فحذف الهمزة”* .
ومهما يكن من أمر فإن ابراهيم عليه السلام نظر وتدبر وتفكر وحاجج فلما تم نظره تيقن بالهدى ثم انطلق يهدي غيره ويدافع عن دين الله ويهجر ويهاجر في سبيله ، فالله سبحانه وتعالى لم يحرّم الراي والنظر والمراجعة فهو جل وعلا ليس بحاجة لعبادتنا انما نحن بحاجة لهدايته حتى لا يعذّبنا باشراكنا ، قال تعالى {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} ، فالله تعالى لم يزجر ابراهيم عندما طلب زيادة اليقين وهو المؤمن المسلم دون ريب فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بل دلّه وعلّمه و أراه { ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، رغم انه عليه السلام أسلم قبل ذلك دون أي ردّ فامتدحه الله عز و جلّ وقال فيه : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ () إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فما هي الا ان قال له الله اسلم فقال : اسلمت. انما هو طريق التدبر وسنة التفكر .
وفي قصة صالح او عالم بني اسرائيل الذي مر على قرية خاوية على عروشها فكان تفكّره ان كيف يحيي الله القرى والناس بعد موتهم ، وقال ابن عباس “إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم [الى بابل] وفيهم عزير بن شرخيا كان من علماء بني إسرائيل ، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هزقل على شاطئ الدجلة . فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له ، فربط الحمار ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهي خاوية على عروشها فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها” او ان الرواية في بيت المقدس نفسه لما خربه بختنصر البابلي في الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث العظام فاهلكهم الله بغزو ملك العراق لهم” ، وأيا كان فإنه تساءل وهو المؤمن العالم او النبي -على رأي- فبيّن له الله تعالى إذ أماته مائة عام ثم بعثه ،، الى آخر القصة المعروفة ، ثم {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يعلم في قلبه ويعرف في عقله ان الله على كل شيء قدير إلا انها طريقة التفكر في عظمة الكون وخلق الله وسنّة التدبر في ملكوته للوصول الى يقين ألوهيته وصدق ربوبيّته ووحدانية صفاته ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ”
فالتفكر حقّ الإنسان في النظر والتدبر والتأمل الذي اراده لنا الله جل في علاه حتى لا نظن في اعتقادنا ويقيننا شكا او جبرا ،{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وحتى لا يغوينا الملحدون ويغرينا المتذبذبون ، ولا نزداد في الله الا يقينا ،