لقد أسهمت التضحيات الجسيمة للشعب العراقي بشكل عام، والكردي بشكل خاص في خلق المناخ الديمقراطي الذي يسود الواقع السياسي في العراق اليوم ، كما لايمكن إغفال الدور الدولي وعلى وجه الخصوص دور الولايات المتحدة الأمريكية في تعبيد الطريق والتأسيس لواقع التجربة الديمقراطية والحياة الدستورية، وهو مالم يكن ليحدث أيضا دون تضحيات بشرية بلغت عشرات الآلاف بين قتيل وجريح ومعاق وخسائر مالية كلّفت الميزانية الأمريكية أكثر من ترليون دولار وفقا لتأكيدات المفتش الأمريكي الخاص بالعراق ستيورات بوين، في حين يذهب الخبراء بأن التكاليف طويلة الأمد سوف تصل الى 4 ترليون دولار.
بعبارة أخرى، إن العامل الدولي حاضر وعلى الدوام في المشهد السياسي العراقي، ورغم ما يشاع أو ما تؤكده الوقائع من تدخلات إقليمية مشوبة بالحذر أو محاولات للتدخل ألا أن الأطراف الخارجية مجتمعة تدرك حجم وسقف التدخلات الممكنة التي تؤهلها لممارسة الأدوار التي تحفظ لها مصالحها في العراق دون إرباك للمشهد أو إستفزاز للقوى الدولية في هذا الإتجاه، ألا أن حكومة أردوغان مع شركائها في العراق قد بلغوا مؤخرا حافات الخطوط الحمراء.
لذلك نسمع من هنا وهناك تصريحات رنانة غير مسؤولة يطلقها البعض غير مدرك لماهية الموقف الذي هو عليه والنتائج المترتبة على عملية التجول في متاهة الألفاظ والمفردات خاصة اذا ماإقترنت بفعل يشير من قريب أو بعيد الى ما كان يبطنه اللفظ من تهديد ووعيد.. وبما يعكس إستخفاف واضح بالآليات الدستورية التي منحتهم حق التعبير والممارسات الحرة.. ومما يستدعي التوقف حقاً في هذا المقال، ما صدر مؤخرا من تجاوزات دستورية وفرقعات اعلامية أطلقها بعض من نصّبوا أنفسهم (ناطقون رسميون) بإسم الشعب الكردي في العراق بهدف خداع البسطاء وحصاد المنافع السياسية والإقتصادية.
لذا، نستذكر ابتداءً الملامح النضالية لثورة أيلول الكردية (1961- 1975)، فقد حرص قادتها بشكل عام، وخاصة الرجل الأول في الثورة المرحوم الملاّ مصطفى البارزاني على تأكيد عكس ما كانت تروج له حكومات البعث من إلصاق تسمية (الإنفصاليين) بالثوار الكرد. فقد كان لتجربة جمهورية مهاباد المريرة التي انتهت بشكل مأساوي، الأثر في خلق رغبة كبيرة لدى قيادة الثورة في صياغة خطاب شامل يضع حداًّ للقطيعة التي تحاول حكومات البعث إيقاعها آنذاك،بين الشعب العراقي والثورة الكردية. لذلك لم يكن يُعلن من اعلام الثورة في حينه أكثر من شعار ” الديمقراطية للعراق والحُكم الذاتي لكردستان العراق”، وهو ما أسفر عن إلتحاق القوى الوطنية العراقية الأخرى بركب الثورة التي إكتسبت بوجودهم بُعدا وطنيا أسقط إتهامات البعث ضد الثورة الكردية.
وبناءً على ما سبق ننطلق في تناول ماهو أهم، لذلك لانريد الحديث عن الخلل القانوني والتجاوز الدستوري في عملية تصدير نفط الإقليم الى تركيا دون موافقة الحكومة المركزية، فالجميع يعلم عدم دستورية وقانونية هذه الخطوة، فضلاً عن إدراك الجميع الى أن هذه الخطوة هي خطوة ارتجالية من طرف محدد يتمثل في الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه السيد مسعود البارزاني والأطراف المحيطة به، لإرباك المشهد العراقي وإحتلال موقع الصدارة في المشهد السياسي للإقليم، ومن ثم إكتساب مزيد من القوة التفاوضية وحصرها في يد السيد مسعود البارزاني (دون غيره) خلال عملية التفاوض المرتقبة مع (إئتلاف دولة القانون بقيادة السيد المالكي) بخصوص تشكيل الحكومة العراقية القادمة، بمعنى آخر، كسب المزيد من التنازلات وفي نفس الوقت قطع الطريق على بقية القوى الكردية من اكتساب إمتيازات خاصة بها تؤهلها الى لعب سياسي أكبر فيما بعد.
ذلك وغيره مما لا يتسع المقام لذكره كان الهدف من وراء هذه الأزمة، ألا أن ما رغبنا تناوله وتوضيحه والتأكيد عليه هو التصريحات الرنّانة التي أدلى بها صُنّاع الأزمة في الأيام القليلة الماضية والتي تهدف الى زج الجانب الكردي من الشعب العراقي في الصراع على المنافع والمكاسب الحزبية والفئوية.
ومن تلك التصريحات النارية ما ذكرته الصحف مؤخرا ومنه: (مسعود بارزاني ،على هامش لقائه رئيس ائتلاف المعارضة السورية ، احمد الجربا ، في باريس ، ان ” الاكراد لن يبقوا شركاء في حكومة يرأسها رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي.”) .. وتصريح آخر أدلى به فلاح مصطفى، المستشار الأول للسيد مسعود بارزاني ومن باريس، قائلا : ” أن الكرد “ملوا” من تصريحات مسؤولي بغداد ولن “يطأطئوا الرؤوس او يخضعون لكل ما يريدون”، وعلى واشنطن التزام جانب الصمت والحياد ولا تضع نفسها وسط هذا الصراع”.. وكذلك ما صرّح به، النائب محما خليل،”أن جميع الخيارات أمام الكُرد مفتوحة بما فيها انفصال الإقليم عن المركز في حال تولي رئيس الوزراء نوري المالكي ولاية ثالثة”.
أن التصريحات غير المسؤولة التي تنم أما عن عدم إدراك للحقائق التاريخية والجهل بالأطر القانونية والدستورية ، أو هو إستغفال للشعب الكردي والقوى السياسية الأخرى في الإقليم لتعزيز نفوذ قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني على حساب بقية الأحزاب في الاقليم.
ولهذا الغرض نود العودة الى تصريح سابق للسيد جلال الطالباني في 16/3/2009 أكّد فيه حقائق لم يلتفت لها الكثيرون حيث قال: ” أن إقامة دولة كردية في العراق هو أمر “مستحيل”، وقد أضحى “حُلم في قصائد الشعر”، وأن رئاسة الاقليم “تشاركني هذا الرأي”.
لم يخفي السيد الطالباني الرغبة بالإستقلال يوماً، وقد كان ما يعمله بصمت لهذا الغرض (الإستقلال) أكبر بكثير مما كان يصرّح به .. لكنه مع ذلك عندما إرتطم بجدار الحقيقة، وعندما وجد نفسه أمام (طريق مسدود)، تولّدت لديه الرغبة الصادقة للإعتراف بالحقائق ومصارحة الشعب الكردي دون التطرق للتفاصيل، والشئ الأهم في ذلك إشارة السيد الطالباني الى أن السيد مسعود بارزاني، “يشاركه هذا الرأي”.
لاشك بأن السيد الطالباني لم يقل ذلك إعتباطاُ، أو لـ (تهدئة مخاوف التُرك تجاه القوى الانفصالية على أراضيها) وفقاً لما كانت تراه وكالة رويترز (ناقلة الخبر)، كلا بالتأكيد لا هذا ولا ذاك، أنما إدراكا من السيد الطالباني الى أن التراكم التاريخي والقانوني للوقائع (على الصعيد الداخلي العراقي) جعل من نظرية الإستقلال عاجزة عن إستيعاب ذلك الكم التراكمي، وبذلك يكون النضال في هذا الاتجاه ضربا من العبث.
بتوصيف أدق، فبالإضافة الى العامل الإقليمي والدولي الذي رأت فيه قيادة ثورة أيلول 1961 (فيما سبق) حائلا كبيرا دون تبني (الإستقلال) بشكل علني، فقد لمس الطالباني اليوم عاملا آخرا أسهمت القيادتين الكورديتين (الطالباني والبارزاني ) في التأسيس له، وأن التلويح للشعب الكردي بالإستقلال في هذه المرحلة هو نوع من أنواع الخداع والتضليل.
فكما أشرت في بداية المقال، إن الحياة الديمقراطية والتطبيقات الدستورية في العراق هي نتاج تلاقح إرادتين، الأولى إرادة دولية والأخرى إرادة وطنية تجسد هذا الأمر في الإستفتاء العام على الدستور العراقي بإشراف الأمم المتحدة عام 2005، الدستور الذي تم إقراره بتأييد 78,59% من الشعب العراقي عموما، و95,00% من الشعب الكردي على وجه الخصوص (وفقا لما ذكره السيد الطالباني). وقد كان الحزبان الرئيسيان (البارتي واليكتي) يحثان الشعب على المشاركة، ويطعنان في (كوردايتي) من يتخلّف عن الإستفتاء، الى الدرجة التي تناولت فيه الصحف توجيه عقوبات من سلطات الإقليم لكل موظف حكومي لم يشترك بالإستفتاء، وعلى سبيل المثال، فقد ذكرت صحيفة الوسط في 26 أكتوبر 2005 ما يلي.. “حكومة إقليم كردستان تبحث اتخاذ قرار بعزل وزير الثقافة فتاح زاخويي من منصبه، مشيرا إلى أن سبب هذا الإجراء يعود لعدم مشاركة الوزير المذكور في عملية الاستفتاء على مسودة الدستور”.
أن جميع مواد الباب الأول (المبادئ الأساسية) للدستور الذي أقرّه الشعب العراقي (بما فيهم الكرد) في عام 2005، وبإشراف الأمم المتحدة ورعاية أمريكية مباشرة، تؤكد وحدة العراق بإقرار شعبي عام، وبذلك،يحتاج السيد مسعود البارزاني كخطوة (أولى) لتنفيذ تهديداته وتحقيق الإستقلال الى تعديل الدستور (وفقا للفقرة 2 من المادة 26) أي: بعد موافقة ثلثي مجلس النواب العراقي، وموافقة الشعب العراقي عامة بالإستفتاء، ومصادقة رئيس الجمهورية أيضا. فلا يمكن تجزئة الإستفتاء وحصره بقاطني الإقليم فقط في أية قضية وطنية أكدّها الدستور المستفتى عليه، عدا ذلك سيكون الفاعل بحُكم (الخارج عن الدستور والمارق على المجتمع الدولي).
خاصة وأن الدستور العراقي قد إرتبط بوثاق دولي آخر، يتمثل في (إتفاقية الإطار الاستراتيجي) الطويلة الأمد المنعقدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، والتي تنص ديباجتها في الفقرة الرابعة على (وحدة العراق) والحرص الشديد على (العملية السياسية) في العراق، وكما ينص القسم الأول (مبادئ التعاون) على تعزيز سيادة العراق على الأرض والمياه والأجواء العراقية، فإن القسم الثاني من الإتفاقية وفي (التعاون السياسي) يؤكد على الحياة الديمقراطية كما (رسمها الدستور العراقي)، وفي القسم الثالث (التعاون الدفاعي والأمني) تؤكد الإتفاقية الطويلة الأمد، التعاون الوثيق والجهوزية التامة للولايات المتحدة لتعزيز قدرة العراق على ردع كافة التهديدات الموجهة ضد سيادته ووحدة أراضيه.
من هذا المنطلق كان السيد الطالباني أكثر إدراكا لهذه الحقائق، وأكثر حرصاُ على المصارحة وعدم التشويش على إرادة الشعب الكردي، ويمتلك شجاعة الإعتراف بأن التلويح بالإستقلال هو إصرار على خداع الرأي العام وعبث في مشاعر البسطاء، وذلك ما يجب أن يدركه رئيس الإقليم.. خاصة وأنهما معاً قد أسهما (طوعاً أو كرهاً) في إجهاض مشروع الإستقلال الكردي في العراق، عندما قررا معا الإتحاد مع العراق في 2003.
مع ذلك فإن السيد مسعود البارزاني والمحيطين به، ممن خدموا البعث عقوداً طوال، وممن أسهموا في الدفع بالشعب الكردي الى تفويت الفرصة على نفسه بنفسه، لا زالوا يصرون على استغفال المجتمع الكردي والتصريح والتفكير بالنيابة عنه أيضا.. ولربما يراهن السيد البارزاني على صمت السيد مقتدى الصدر و د.أياد علاّوي والسيد عمار الحكيم في تهديده المتكرر للوحدة العراقية، والذي وكما أشرت من قبل بأنها تهديدات جوفاء لا تعدو عن كونها هواء في شبك، ليس إلاّ.
مع ذلك وكما أراح السيد الطالباني ضميره في ذكر الحقائق للرأي العام دون مجاملة ، فقد مارس السيد المالكي دوره القيادي بإلفات نظر شريحة كبيرة من شعبه (الكرد) الى ذات الحقيقة عندما نقلت فضائية السومرية عنه القول في 10/5/2012 ” أن مطلب السيد البارزاني بحق تقرير المصير “مخالف للدستور”، مؤكداَ أن الدستور لم يتضمن كلمة واحدة تتحدث عن تقرير المصير أو الانفصال، معتبرا أن الكرد قرروا مصيرهم عندما صوتوا بالقبول على الدستور العراقي”… وبذلك كان السيد المالكي قد أوضح حقيقة، كان من الممكن السكوت عنها كبقية قادة الكتل العراقية الذين لم ينطقوا ذلك، سواءً نتيجة الجهل بهذه الحقائق أو مجاملة لقادة الكرد والإسهام معا في التأسيس لفتنة بين الأكراد والعرب.
لذلك أن التصريحات التي لاتستند الى أسس إخلاقية وقانونية والمتمثلة في تشييد جدران العزل العنصري بين الأكراد وبقية شرائح المجتمع العراقي، سوف يؤدي بطبيعة الحال، الى قتل روح المبادرة لدى الإنسان الكردي و التشويش على إرادته لتعطيل أي إسهام إيجابي له في البلد الذي يقطن فيه، وأن من يفعل عكس ذلك يكون متهما من قبلهم بـ (الخيانة العظمى).
ختاماً أقول لهذا الصنف من القيادات الكردية.. أليس من المعيب التهديد دون إمتلاك أدنى قدرة على تنفيذ مثل هذا التهديد؟ .. والى متى النظر الى الشعب بل والقوى السياسية الأخرى في الأقليم من أبراج عاجية لترونهم بالنتيجة أحداثاً غير مؤهلين لتمثيل أنفسهم هنا أو هناك أو تبوأ منصب في أربيل أو بغداد (إن لم يكونوا ذيولاً لكم)؟.. وماذا تقولون لو وافق فصيل كردي سياسي على الإنضمام في حكومة الأغلبية السياسية التي يسعى الى تشكيلها السيد المالكي، فهل توجهون له تهم تعطيل (مشروع الإستقلال الكردي) أم ترسلون له عصابات فاضل مطني ميراني لإمطاره برصاص الغدر، كما فعلتم معي مسبقاً؟