هيئة التعليم التقني صرح علمي كبير ترتبط بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي تأسست سنة 1969, وتشكل إمبراطورية تعليمية على وفق كل القياسات ,إذ يرتبط بها أكثر من 46 تشكيل بمستوى المديرية العامة منها 28 معهدا تقنيا و16 كلية تقنية, وتتوزع تشكيلاتها على 15 محافظة ( عدا إقليم كردستان ) وتستوعب هذه الهيئة ثلث عدد الطلبة المقبولين سنويا في الجامعات الحكومية على الأقل , ويعمل فيها بحدود 16 ألف منتسب من التدريسيين والمدربين التقنيين والإداريين , وتتوزع الدراسة في كلياتها بثلاث مستويات هي الدبلوم والبكالوريوس والدراسات العليا ( الدبلوم العالي , الماجستير , الدكتوراه ) ويبلغ عدد طلبتها أكثر من 70 ألف سنويا .
لقد استطاعت هذه الهيئة أن تحافظ على هوية التعليم التقني وان تطوره لمستويات عالية لاسيما خلال المدة الأخيرة , لكنها عانت من الترهل الإداري , فتشكيلاتها الموجودة في كل المحافظات تضطر للرجوع إلى مقرها في بغداد , ورغم منح العديد من الصلاحيات إلا إن المركزية تطغي على إجراءاتها في العديد من الأحيان , وهو ما تطلب وجود محاولات كثيرة لإعادة هيكلتها من جديد بشكل يجعلها قادرة على الابتكار والإبداع , وابتدأت تلك المحاولات سنة 1986 وأعيدت مرات عديدة , إلا إنها كانت تصطدم بنزعة قياداتها في المحافظة على هذا الهيكل الإداري وكانت الذريعة في كل مرة هو الحرص في الحفاظ على هوية التعليم التقني .
وفي سنة 2013 تولى رئاسة الهيئة الدكتور عبد الكاظم الياسري الذي نشأ وترعرع وظيفيا فيها , حيث بدأ فيها في سنة 1986 بعنوان مهندس وبعد أن أكمل دراسته في الماجستير والدكتوراه تدرج في الوظائف التعليمية , فعمل كرئيس قسم ثم تحول إلى عميد لكلية التقنيات الكهربائية والالكترونية ومعهد الشطرة ومعهد النجف التقني وغيرها من الأماكن التي خبر فيها تفاصيل التعليم التقني وشخص فيها مكامن القوة والضعف في التعليم التقني , واعتقد البعض بأنه سينقلب على أفكاره التي كان يجهرها والداعية إلى تحرير التعليم التقني من قيوده الإدارية لتكون الكليات والمعاهد التقنية حاضنة للأفكار والطاقات المبدعة للشباب .
وخلال لقاء مع قناة الحرة الفضائية في آذار 2013، طرح فكرة أعادة هيكلة التعليم التقني معلنا عن تشخيصه الخلل بسبب اتساع توزع تشكيلات الهيئة على كل أرض العراق ، في وقت كانت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تطمح بأن يكون هناك ( 100 ) معهد وكلية تقنية عام 2022 ، وبعد لقائه مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي تم شرح الفكرة ، وشجعه الأخير على المضي قدما بهذا المشروع ، وخلال شهر واحد تم عرض المشروع على هيئة الرأي بالوزارة ، وشكلت لجنة برئاسته وعضوية رؤساء جامعتين عراقيتين ومدراء عامين من الوزارة لدراسة الموضوع ، وأخذ المشروع بعدا كبيرا ودعم أكبر من أغلبية العاملين ، وعقد مؤتمرا للعمداء ضم ( 46 ) مديرا عاما مع ( 46 ) من العمداء السابقين ممن عملوا بالهيئة والشخصيات العلمية المختصة , وأتفق الجميع على الجدوى من تنفيذ هذا المشروع مع امتناع ( 2 ) عن التصويت ومعارضة ( 2 ) آخرين بسبب اعتقادهم بالتفريط بخصوصية التعليم التقني وتحوله إلى تعليم أكاديمي .
وتقضي إعادة الهيكلة بان تتحول هيئة التعليم التقني إلى أربعة جامعات تقنية متعددة الاختصاصات , واحدة في بغداد والثانية في النجف الاشرف والثالثة في الموصل والرابعة في البصرة , وترتبط بكل جامعة الكليات والمعاهد التقنية حسب القرب من الموقع الجغرافي , وقد عرضت عدة توجهات حول بدايات المشروع , منها أن يكون هناك مجلس أمناء أو مجلس التعليم التقني رئيسه يكون مقره في بغداد أو رئاسة دورية للمجلس , أو أن يكون رئيس الجامعة التقنية في بغداد رئيسا لمجلس التعليم التقني لكون بغداد تضم 17 تشكيلا وهي اكبر من كل التشكيلات اوان تبقى الهيئة كتشكيل فني , وقد رجحت التوقعات أن تستغرق فترة الإعداد للجامعات الأربعة أربعة سنوات , ولكن ذلك تم انجازه بسنة واحدة من خلال العمل الجمعي والعمل لساعات طويلة واختزال الوقت من خلال مضاعفة الجهد وتقسيم العمل على فرق يتخصص كل منها بجوانب محددة ومناقشة نتائجها وتتخذ القرارات بخصوصها بالتصويت .
أما عن الكلف التخمينية والموارد المادية , فهناك أبنية وكليات جاهزة وتم تخصيص 138 دونم في البصرة و500 دونم في النجف وكذلك الموصل لهذه الجامعات , وسيتم تخصيص 25 مليار دينار لكل جامعة وسيكون هناك مقرا لائقا لرئاسة الجامعة التقنية في بغداد , وخلال المؤتمرات التي تم عقدها تم وضع جداول وخرائط لإعادة توزيع الموارد البشرية بما يتوافق مع المعايير الوطنية والعالمية , كما تم وضع الخطط المتعلقة بتطوير الورش والمختبرات والقاعات والمكتبات وتحديث تقنيات التدريس والتدريب وتطوير المناهج تطبيق معايير الجودة والاعتمادية وتمت المباشرة بها منذ منتصف 2013 وسيتم انجاز ما تبقى منها حسب الخطط ذات العلاقة بالموضوع , وبعد الشروع بالجامعات التقنية الأربعة ستكون القرارات داخل الجامعات وارتباطها مباشر مع الوزارة , وصلاحيات مجلس التعليم التقني تتعلق بالنواحي العلمية التقنية والمناهج وتطوير الملاكات والتنقلات والعلاقة مع مؤسسات التعليم التقني في الخارج وكل ما يتعلق بالمحافظة على نمط التعليم التقني بما يحفظ هويته وسمعته العربية والدولية.
وان ابرز مايترتب عن هذا التغيير, هو عدم معاملة هيئة التعليم التقني التي تضم 38% من طلبة العراق معاملة الجامعة واحدة , وسيكون بمقدور الجامعات الجديدة تحقيق إيرادات كبيرة من خلال الفعاليات الإنتاجية وزيادة العلاقة مع البيئات المحلية , وشهادات الطلبة ستكون شهادات جامعية والمنتسبون سيكون لهم عنوان ( جامعيون ).فابن البصرة لا يأتي إلى بغداد لاستلام راتبه ولا يمنع أن تكون المناهج موحدة وإتاحة حرية الانتقال من والى الأقسام المناظرة , وفتح الكليات والأقسام يحددها مجلس التعليم التقني في بغداد. كل هذه الأسباب جعلت الموافقة على المشروع تحظى بموافقة الاغلبية وهذا التغيير التاريخي يسجل للياسري أولا وكل من أسهم في إنجاحه , ويعد خطوة تاريخية في التحول الايجابي المبني على أفكار العاملين وليس بقرارات فوقية فالمبادرة تبناها الجميع كما انه بخبرات وطنية بالكامل .
وقد وافق مجلس الوزراء في جلسته التاسعة عشر الاعتيادية على مقترح وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المتضمن استحداث أربعة جامعات تقنية في بغداد والفرات الأوسط والشمال والجنوب وجامعة بغداد وأصبح الأمر نافذا , ومن المؤمل أن تشهد الأيام القادمة الخطوات العملية للانتقال إلى الجامعات التقنية الجديدة , وان الغاية من هذه المقالة ليس لتمجيد من أسهم في إحداث هذه الانتقال بالطريقة التي عرضت , وإنما الإشارة بان بلدنا حي وعريق ولا يمكن لأية ظروف أن تعطل حماسة أبنائه في ولوج أحسن الانتقالات عندما تعمل بنكران ذات وتنكر للمصالح الشخصية , فرئيس الهيئة الذي ضحى ( ببيروقراطية ) كان يرأس فيها 46 موظفا بدرجة مدير عام و16 ألف من الموظفين بمختلف المستويات والاختصاصات بكل كفاءة ونجاح , ربما سيكون رئيسا لإحدى هذه الجامعات أو عميدا أو تدريسيا في احد الأقسام , لكنه قدم العراق على مصلحته من اجل أن تكون هناك حاضنات علمية لتعليم وتدريب وتربية الشباب ليكونوا طاقات حقيقية في سوح العمل والبناء , ومثله ومثل من عمل معه هم موجودون , ولكننا بحاجة إلى من يبنى العراق بالترفع عن المسميات والمناصب والمغريات .