قبل يوم من إعلان الاتفاق بين حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في العراق برئاسة أحمد حسن البكر، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى بارزاني، في الحادي عشر من آذار 1970؛ كانت قواعد الحزب الشيوعي العراقي (اللجنة المركزية) تلقت تعليمات بالخروج في تظاهرة مشتركة مع أعضاء وأنصار وجماهير الحزبين، البعث والبارتي، وتم التركيز على المنظمات المهنية والطلابية؛ في فترة كانت قيادة البعث الحاكم تتفاوض مع عضو اللجنة المركزية مكرم الطالباني، وربما مع عضو المكتب السياسي عامر عبد الله؛ على مشروع ما بات يعرف بعد عامين بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية.
كان الجناح الراديكالي للحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزية) بزعامة عزيز الحاج قد تمت تصفيته، إما عن طريق اغتيال أبرز كوادره العاملة بمن فيها غير المكشوفة أو القتل تحت التعذيب في معتقل “قصر النهاية”، الاسم المكنى به قصر الرحاب، الذي شهد مذبحة الأسرة الهاشمية الملكية في العراق فجر 14 تموز/ يوليو 1958، وأصبحت الساحة السياسية خالية من قوى معارضة لتوجهات الحزب الشيوعي العراقي بزعامة عزيز محمد، وعاد المنشقون من الحزب إلى قواعدهم، إما على مضض أو بفعل إدمان العمل الجماهيري؛ فيما واصل عدد آخر مسيرة “الكفاح المسلح” بدون بنادق ولا حتى سكاكين مطبخ بزعامة المهندس والمقاول الثري إبراهيم علاوي و…. عادل عبد المهدي، الذي كان انضم بعد انشقاقه عن البعث إلى حركة الثوريين العرب الماركسية وتزعم جناحها الماوي؛ ولكن بدون حزام على دشداشة سوداء في طريق عاشوراء.
خرجنا مع لافتات حمراء وبيضاء من كليات جامعة بغداد، متوجهين نحو باب المعظم ومنطقة الميدان، الساحة التي تشهد كل المواعيد الحزبية والغرامية أمام وخلف وداخل منطقة الباص رقم 4 ماروني اللون يتهادى بأناقة إنكليزية وطابقين لامعين.
كانت هتافاتنا متفق عليها وتركز على الأخوة العربية الكردية (هربجي كورد وعرب) وكانت تصدح في رؤوسنا الأغنية الممنوعة منذ انقلاب شباط 1963 “هربجي كورد وعرب رمز النضال”. وظهرت لافتات تعكس أحد أبرز شعارات الحزب الشيوعي التاريخية (الحكم الذاتي لكردستان والديمقراطية للعراق) وها هي كوردستان تحصل على حكم ذاتي وعلى اتفاقية تضمن لشركاء الوطن حقوقا حرم منها كل الأكراد في دول الجوار وسوريا الأسد الذي أنكر على الكورد حق المواطنة.
قبل أن تبدأ التظاهرة مسيرتها من باب المعظم حتى الباب الشرقي وساحة التحرير عبر شارع الرشيد، دخلت عناصر بزي مدني، تحمل الهراوات، متحزمين بمسدسات تظهر أخمصها تحت القمصان، كنا نسير خلف قادة الحزب الشيوعي، عامر عبد الله، مكرم الطالباني وأخرين لم أعد اتذكرهم، يتوسطهم عزيز شريف الشخصية الوطنية القريبة من الشيوعيين ولعب مع المستشرق السوفيتي يفغيني بريماكوف دورا بارزا في الوساطة بين حكومة الرئيس أحمد حسن البكر والزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني بمشاركة صدام حسين، وكان نائبا لما عرف حينها بمجلس قيادة الثورة ونائب الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي قطر العراق، واتفق البعثيون وقادة الحزب الشيوعي العراقي على تلقبيه “السيد النائب” حتى في جلسات القادة الشيوعيين الخاصة وبشروا بولادة “كاسترو العراق”!
بعد دقائق من نزول “الويلاد ” كما كان يحلو “للسيد النائب” تسمية الفرق الصدامية في حزبه؛ حتى تم عزلنا عن رأس المسيرة وقيادة “VIP” وصرنا مطوقين في بقعة صغيرة حشرنا داخلها، وانطلقت الشتائم من الويلاد ومعها تطايرت الهراوات تلذع ظهورنا وتمزق قمصان. كان بعضنا لا يملك غيرها ومن لديه بدائل فإنها لم تكن على المودة في تظاهرة حسبوها احتفالا وعيدا.
اقتحمت “جزرة الكادحين” سيارات بدون أرقام، بدأت بحشر من لم تسعفه أقدامه على الهرب، وكان أحد قادة “المسيرة” التي لم تبدأ رحلة الألف ميل بخطوة واحدة، ناظم الجواهري، ممشوق القامة الطويلة بابتسامته الودودة الدائمة، أول ضحايا الخطف؛ هاجمه الويلاد وجروه نحو السيارة مفتوحة الأبواب فأمسك بعضنا به محاولين تخليصه؛ لكنهم تمكنوا من حشره في العربة، ولم نتمكن إلا من إنقاذ فرد من حذائه ماركة باتا 46 على الأغلب.
جعفر الزرگاني، صاحب أعلى وأقوى
طز “زيگ” في جامعة بغداد، قاوم الويلاد بإطلاق عيارات من ” المّحزّم” و”القبغلي” وتمكن من جر بعضهم نحو موقف الباص رقم 4، وهناك كان يحتشد عدد من الزملاء لم يشتركوا في المسيرة، اشتبك بعضهم مع الويلاد الذين انسحبوا فجأة ومعهم عدد من الزملاء جرى اعتقالهم فيما واصلت التظاهرة مسيرتها” السلمية” وعلى رأسها قيادات VIP من الأحزاب المؤلفة قلوبهم.
كانت أزقة وحواري منطقة الميدان ملاذا أمنا، لجأ اليها الناجون من الاعتقال، ففي بيوت الحي القديم يمارس نساء نازحات من أرياف جنوب وشمال العراق أقدم مهنة في تاريخ البشرية، ولم يكنّ بحاجة لا إلى اتفاق أو بيانات للتآخي والشراكة في اصطياد الزبائن.