في يوم الإثنين 10 مارس 2025، شهدت حكومة “فجر سوريا الجديد” توقيع اتفاق تاريخي بين رئيس المرحلة الانتقالية السيد “أحمد الشرع” والسيد “مظلوم عبدي” قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يقضي هذا الاتفاق ببنوده الثمانية باندماج هذه القوات ضمن مؤسسات الدولة الجديدة. لم يكن هذا الاتفاق بنظرنا مجرد خطوة داخلية لتوحيد سوريا بعد سنوات من الحرب الأهلية والتمزق والاقتتال الذي شهدته بين أطياف ومكونات الشعب، ولكن نحن نعتقد وحسب قراءتنا للوضع ومتابعتنا لهذه الأحداث عن كثب، بانها حتمآ كانت نتاج جهود دبلوماسية مكثفة قد تكون قادتها كل من الحكومة التركية والقطرية، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، وبدات منذ مساء يوم الخميس 6 أذار وذلك لإجهاض مخطط إيراني كان يهدد بإشعال حرب أهلية جديدة وبغرض إعادة توسيع نفوذ طهران في المنطقة من جديد, لذا وضمن هذا السياق سوف نحاول قدر الإمكان أن نحلل هذه الإحداث وما جرى خلال الأقل من الأربع أيام الماضية من مباحثات ماراثونية مكثفة لغرض إجبار قيادة “قسد” على توقيع الاتفاق وحسب مشاهدتنا ومتابعتنا وما نعتقده أنه قد حصل وحتى اذا كان ما يزال خارج نطاق التغطية الاعلامية ولكن التصريحات السابقة توحي الينا بما نحن في صدد تناول موضوعات السيناريوهات المحتملة في هذا الموضوع .
في لحظة فارقة كادت أن تُغرق سوريا في مستنقع حرب أهلية جديدة، أطلقت الحكومة التركية تحذيرًا صلبًا كالصخر لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” قد يكون مفاده او قريبا منها : “إما أن تقفوا إلى جانب حكومة سوريا، أو ستواجهون عواقب وخيمة لا تُحمد عقباها، وإيران التي تستخدمكم كأدوات في لعبة الفوضى لن تكون لكم سندا وانما مجرد سراب سيتلاشى عند أول اختبار حقيقي تضعكم فيه”.
هكذا جاءت الرسالة التركية حاسمة، أو قد تكون أشد منها، وتحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا ودعوة واضحة لإعادة ترتيب الأوراق قبل أن تُشعل نيران المنطقة بأسرها. وبدا واضحًا أن “أنقرة” لم تكتفِ بالكلمات والبيانات والتصريحات ولكن مع اتصالات مكثفة أجرتها وزارة الخارجية التركية مع ادارة البيت الأبيض ووزير الخارجية الأمريكي، مدعومة بجهود قطرية بارزة، للضغط على “قسد” من أجل توقيع اتفاق السلام، الهدف كان بالدرجة والمضمون الأساس؟ قطع الطريق على “إيران” التي بدأت تتسلل عبر ثغرات الصراع، مُحركةً خيوط الفوضى عبر فصائلها الولائية المسلحة وميليشياتها التي قد تكون ما تزال متخفية بمناطق الساحل السوري، وفي محاولة حثيثة منها لإشعال حرب أهلية لا يدفع ثمنها سوى الشعب السوري المثقل بسنوات الدمار والخراب.
*توقيع الاتفاق: هل كان فقط انتصار للسلام أم أنه سيكون تأجيل للمواجهة؟
تابعنا ومن خلال شاشات التلفزة والقنوات الإخبارية الفضائية البارحة يوم الإثنين، حيث أعلنت رئاسة المرحلة الانتقالية في سوريا عن توقيع اتفاق نعتبره كان تاريخي مع قوات “قسد” يقضي اندماجها ضمن مؤسسات الدولة السورية الجديدة. الاتفاق تضمن بنودًا حاسمة اهمها : وقف إطلاق النار في جميع الأراضي السورية، ودعم “قسد” للحكومة الانتقالية في مواجهة فلول النظام المخلوع، ورفض صريح لدعوات التقسيم وخطاب الكراهية. وكان هذا الاتفاق الحاسم للصراع , وهكذا، وضعت سوريا قدمها على أولى درجات السلم الاهلي للوصول الى التعايش المشترك بين فسيفساء المجتمع للوصول الى مستقبل زاهر بالتنمية البشرية والاقتصادية.
لم يكن لنا هذا الاتفاق وليد اللحظة، فقد سبقته أيام من التوتر العاصف والشحن الطائفي وبث الإشاعات من خلال منصات التواصل الاجتماعي، حيث شهدت ليلة الخميس 6 مارس هجمات منظمة نفذتها فلول النظام السابق تحت اسم “درع الساحل” في مناطق متفرقة من الساحل السوري. استهدفت هذه العناصر الشرطة وقوات الأمن الداخلي والمدنيين، مُخلفةً 75 قتيلًا ومئتي أسير، في عملية بدت كمحاولة يائسة لإعادة إحياء شبح نظام الأسد المخلوع. ولكن ما أثار القلق لنا ومن خلال مشاهدتنا يتمثل أكثر هو الدعم الإعلامي الذي تلقته هذه الفلول من إيران وأعضاء من مجلس النواب العراقي المنتمين لأحزاب وفصائل ولائية مسلحة وبمساندة إعلامية من قبل فضائيات وقنوات إخبارية عائدة لهذه الأحزاب، التي سارعت بدورها إلى وصف هذا التمرد المسلح والذي جرى على طول الساحل السوري بـ “المقاومة الشرعية”، وفي حين وصفت الحكومة السورية الجديدة عن طريق إعادة والترويج لها بكثافة من خلال الحوارات وعرض الأخبار بالتسمية القديمة بمقاتلين “جبهة النصرة” و “القاعدة” وبـ “عناصر الجولاني” وفي محاولة واضحة لإعادة إشعال نار الفتنة الطائفية واستثارة الرأي العام العراقي، برزت دعوة بعض برلمانيي “الإطار التنسيقي” إلى الحكومة العراقية لعرض التطورات في سوريا أمام مجلس الأمن الدولي. لكن المفارقة المثيرة للتأمل تكمن في صمت هؤلاء البرلمانيين أنفسهم، وكذلك القنوات الإعلامية المحسوبة عليهم، إزاء تلك الدعوة ذاتها عندما كانت البراميل المتفجرة تجتاح سوريا، حاصدة أرواح المئات بل الآلاف من السوريين، في وقت كانت المعتقلات والسجون تعج بالموقوفين، ومشاهد المسالخ البشرية في سجن “صيدنايا” تتكشف كجرائم لا تُمحى من الذاكرة وليس عنهم ببعيد . هؤلاء الضحايا لم يكونوا بعيدين، وقد تحملوا تلك الفظائع لمجرد معارضتهم نظام “بشار الأسد” القمعي. إن معدن الرجال يظهر جلياً في مثل هذه المواقف الحاسمة، حيث يُفترض أن يُقال الحق بجرأة، متجاوزاً حدود الطائفة أو المذهب. فالمعايير المزدوجة التي يتبناها البعض تكشف تناقضاً صارخاً، إذ يتحركون اليوم لاستغلال الأزمة السورية لأغراض سياسية وطائفية ومذهبية ، بينما كانوا صامتين إزاء مآسي أكبر شهدها الشعب السوري في السابق، مما يثير تساؤلات عميقة حول صدق النوايا وعدالة الموقف.
لقد شعرنا بارتياح كبير إثر البيان الذي أصدره السيد “مقتدى الصدر” زعيم ” التيار الوطني الشيعي” تعليقاً على الأحداث التي شهدها الساحل السوري، حيث تميز موقفه بالحكمة والتعقل ورؤية ثاقبة تمتد إلى آفاق بعيدة، في تناقض صارخ مع مواقف آخرين بدا أنهم يسعون لإحياء جمر الفتنة الطائفية من جديد. وفي ظل ما يعانيه العراقيون اليوم من تحديات اقتصادية واجتماعية جسيمة، فإن مثل هذه الدعوات المتهورة لا تزيد الوضع إلا تعقيداً، مما يجعل دعوة الصدر إلى ضبط النفس وتغليب المصلحة الوطنية خطوة تستحق التقدير في هذا السياق الحساس.
*إيران كانت وما تزال برأينا في قلب العاصفة: فهل كانت مناورة طائفية أم انهيار لا مفر منه ولا رجعة؟
لم تكتفِ طهران بالدعم الإعلامي. فقد تبين أن هجمات فلول النظام البائد قد تلقت تسهيلات لوجستية من ميليشيات لبنانية وإيرانية، بل وحتى من بعض العناصر داخل “قسد”، وهذا ما نعتقده في تناولنا سياق تسارع الإحداث، مما دفع تركيا وحلفائها إلى التحرك السريع. مفاده: “إذا تُركت الأمور لإيران، فإن سوريا لن تكون سوى ساحة لتصفية حسابات إقليمية، والمنطقة برمتها ستدفع الثمن” وفي هذا السياق، يبدو أن الاتفاق الموقع ليس مجرد خطوة لإنقاذ سوريا من حرب أهلية، بل رسالة استراتيجية إلى طهران مفادها: “لن نسمح لكم بتحويل سوريا إلى ورقة في لعبتكم واستغلال الطائفية”.
على الرغم من تأخر الاتفاق، فإنه جاء في الوقت المناسب لإجهاض فتنة كادت تُحرق كل آمال السوريين في عيش كريم واقتصاد مزدهر. ولكن التحديات لا تزال قائمة. فالاستقرار الذي ينشده الشعب السوري يظل رهينةً بمدى التزام الأطراف الموقعة، وبقدرة الحكومة الانتقالية على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. وإن نجاح هذا الاتفاق قد يُعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة، بينما فشله قد يفتح أبواب جهنم التي لا يعرف أحد متى ستُغلق.
وحسنا فعلت وتداركت مسرعة الحكومة العراقية بان تم لجم الفصائل الولائية المسلحة، تلك التي ما تزال تتستر تحت عباءة الحشد الشعبي، وكبح جماح تدخلها في أتون الأحداث المشتعلة على الساحل السوري، فإن أي خطوة متهورة من هذه الفصائل ستُشعل فتيل عواقب وخيمة لا تُبقي ولا تذر، تُلقي بظلالها المدمرة على الجميع دون استثناء.
*الدور التركي: بين لعبة الضغط الاستراتيجي والحسم العسكري؟
تركيا، التي كانت لاعبًا رئيسيًا في دعم المعارضة السورية ضد نظام “بشار الأسد” حتى سقوطه في ك1 2024، رأت في تحركات فلول النظام السابق، والمدعومة من إيران، تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي واستقرار المنطقة. ومع بدء هجمات ما يسمى بفلول “درع الساحل” في مساء يوم الخميس 6 آذار 2025 على طول شريط الساحل السوري، والتي أسفرت عن مقتل عشرات من قوات الأمن والمدنيين العزل، أدركت “أنقرة” أن أي فوضى في سوريا قد تعزز من نفوذ إيران وميليشياتها وفصائلها الولائية المسلحة، وتُعيد إحياء مخاطر حزب العمال الكردستاني (PKK) عبر “قسد”، التي ترى فيها تركيا امتدادًا لهذا الحزب,ولذا سارعت تركيا إلى تحريك أدواتها الدبلوماسيةوالعسكرية:
أولاً: أطلقت تحذيرًا شديد اللهجة لـ “قسد”، مُطالبةً إياها بالانضمام إلى الحكومة الانتقالية أو مواجهة عواقب وخيمة، مشيرةً إلى أن إيران لن تكون قادرة على حمايتها كما تستخدمها كورقة لإعادة الفوضى.
ثانيًا: نفذت أنقرة اتصالات مكثفة مع البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، مستفيدةً من علاقاتها الاستراتيجية كحليف في الناتو. وركزت تركيا في حوارها مع واشنطن على مخاطر ترك “قسد” خارج الاتفاق، حيث قد تتحول إلى أداة بيد إيران لزعزعة الاستقرار، خاصة بعد تقارير عن تسهيلات لوجستية قدمتها بعض عناصر “قسد” لفلول النظام البائد.
ولم تكتفِ تركيا بالضغط الدبلوماسي، بل ألمحت إلى استعدادها للتدخل العسكري المباشر ضد “قسد” إذا لم تُظهر تعاونًا، مما قد يكون وضعت الولايات المتحدة أمام خيارين لا ثالث لهما : إما دعم الاتفاق أو المخاطرة بمواجهة مع حليف رئيسي. هذا الضغط التركي، المدعوم بحضورها العسكري القوي في شمال سوريا، جعل من ادارة البيت الأبيض بان يرى في الاتفاق حلاً يحقق التوازن بين دعم “قسد” كشريك سابق ضد داعش، وضمان استقرار الحكومة السورية الجديدة دون تصعيد مع أنقرة.
*الدور القطري: التميز بنهج الوساطة الناعمة وقوة النفوذ الاقتصادي:
في المقابل، نحن نعتقد كذلك ومن خلالها قد تكون لعبت قطر دورًا مكملًا يعتمد على قوتها الناعمة ونفوذها الاقتصادي. منذ سقوط “نظام الأسد”، عززت الدوحة علاقاتها مع الحكومة الانتقالية، حيث زار أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، دمشق في شباط 2025، معلنًا استعداده لدعم إعادة الإعمار. وفي سياق ما جرى خلال الأيام الماضية، استغلت قطر علاقاتها الوثيقة مع تركيا والولايات المتحدة لتعزيز الضغط من أجل الاتفاق من حيث تكون قد ركزت “قطر” في مفاوضاتها مع البيت الأبيض على البعد الإنساني والاستراتيجي ومن خلال :
أولاً: حذرت من أن فشل دمج “قسد” قد يؤدي إلى حرب أهلية تُغرق المنطقة في الفوضى، مما يفاقم أزمة اللاجئين ويعيق جهود التعافي الاقتصادي التي تعهدت الدوحة بدعمها.
ثانيًا: قدمت قطر نفسها كوسيط محايد بين الأطراف، مستفيدةً من خبرتها في التوسط في نزاعات مثل مفاوضات طالبان والولايات المتحدة أو هدنة “قطاع غزة” الحالية . وتواصلت الدوحة مع مسؤولين أمريكيين، مُبرزةً أن دعم الاتفاق لن يُنهي الشراكة الأمريكية مع “قسد” فحسب، بل سيُعزز الاستقرار الإقليمي ويُضعف إيران، وهو هدف مشترك لواشنطن وأنقرة والدوحة على حد سواء.
ثالثآ: اقتصاديًا، ألمحت قطر إلى استعدادها لتقديم استثمارات كبيرة في سوريا، لكنها ربطت ذلك بضمان الاستقرار السياسي، مما جعل ادارة البيت الأبيض يرى في الاتفاق فرصة لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية دون تحمل أعباء عسكرية إضافية. هذا النهج القطري، الذي يمزج بين الدبلوماسية والإغراء المالي، عزز من موقف تركيا وجعل الرفض الأمريكي للاتفاق أقل جاذبية.
*التكامل التركي-القطري: كانت رسالة موحدة إلى إدارة البيت الأبيض:
ما جعل الجهود التركية والقطرية فعالة هو تكاملها الاستراتيجي والاقتصادي وحتى العسكري . تركيا قدمت الضغط العسكري والأمني، بينما أضافت قطر البعد الدبلوماسي والاقتصادي. معًا، أقنعتا “البيت الأبيض” بأن الاتفاق هو الخيار الأمثل لتجنب سيناريو كارثي: حرب أهلية تُمكن إيران من استغلال “قسد” وفلول النظام لإعادة ترتيب أوراقها في سوريا، مما يُهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها وحتى اسرائيل .
ونحن نعتقد بدورنا انه في غضون يومين فقط (8-9 أذار 2025) أو حتى كانت قبل بأسابيع وقبل إحداث الساحل السوري، نجحت الاتصالات المكثفة بين أنقرة والدوحة وواشنطن في دفع “قسد” للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الرئيس “أحمد الشرع”، بدعم أمريكي ضمني. كانت الرسالة واضحة: إيران يجب ان لن تجد موطئ قدم في سوريا الجديدة مرة اخرى ، والمنطقة لن تتحمل فوضى جديدة. هذا التحرك لم يكن مجرد رد فعل على هجمات الساحل، بل كانت خطوة استباقية وفعالة لإعادة تشكيل المشهد السوري والإقليمي بعيدًا عن قبضة الحرس الثوري الإيراني.
ومع ذلك، يمكن من خلال تحليل السياق كان هناك دور بناء لدول الاتحاد الأوروبي التاريخي في المنطقة العربية بالأعم وبالأخص منطقة الشرق الأوسط. لان الاتحاد الأوروبي لطالما كان داعمًا للحلول السياسية في سوريا، وخاصة من خلال دعمه للعملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة. كما أنه يركز على تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، كما يظهر من خلال شراكات مع دول المنطقة ومبادراته الدبلوماسية وبالأخص عدم تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ووقف وايد بقوة البيان الختامي للقمة العربية في القاهرة.، فمن المحتمل جدأ برأينا أن يكون الاتحاد الأوروبي قد لعب دورًا غير مباشر، ربما من خلال الضغط الدبلوماسي أو تقديم الدعم اللوجستي أو المالي لتسهيل هذه المفاوضات ثم توقيع الاتفاق، وليس بالضرورة أن يكون كوسيط مباشر.
من وجهة نظرنا التحليلية، يمكن القول إن إسرائيل قد تكون حاضرة بصورة غير مباشرة في صلب الاتفاق الذي جرى توقيعه بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والإدارة السورية الانتقالية، حتى وإن لم تكن طرفًا ظاهرًا على خشبة المسرح السياسي. ففي كواليس هذا الحدث، يبدو أن إسرائيل كانت تتابع التطورات عن كثب، دون أن تكون خارج دائرة التأثير، على الرغم من انشغالها بملف تمديد اتفاق وقف إطلاق النار مع حركة “حماس“.
وفي هذا السياق، قد يُحتمل وجود تفاهم ضمني يتمثل في الإبقاء على الأراضي السورية التي سيطرت عليها إسرائيل عقب انهيار نظام بشار الأسد، أو على الأقل الاحتفاظ بها كورقة ضغط مؤقتة حتى تستقر الأوضاع وتتضح معالم إدارة المرحلة المقبلة. هذا السيناريو، الذي نطرحه استنادًا إلى متابعة دقيقة لتسارع الأحداث، يستمد قوته من الإطار الزمني الضيق للغاية الذي لم يتجاوز 72 ساعة، بدءًا من مساء الخميس مع تطورات الساحل السوري، وصولاً إلى توقيع الاتفاق يوم الاثنين، الذي تزامن مع إخماد بوادر الفتنة.
وفي تقديرنا، ينبغي ألا ينتقص من جهود القائمين على هذا الاتفاق، ومن خلال ما شاهدناه حول اجتماع دول الطوق السوري , إذ كان للاجتماع العاجل الذي استضافته العاصمة الأردنية عمان يوم الأحد 9 أذار كان له كذلك دور محوري وتأثير ملموس في تيسير عقد هذا الاتفاق. فقد شكّل هذا اللقاء، الذي جمع سوريا ودول الجوار، بمشاركة وزراء الخارجية والدفاع، ورؤساء هيئات الأركان، ومديري أجهزة المخابرات من الأردن، تركيا، سوريا، العراق، ولبنان، دعامة أساسية لتعزيز الاستقرار الإقليمي. وجاء البيان الختامي للاجتماع ليؤكد التزام الدول المشاركة بدعم الشعب السوري في مساعيه لإعادة بناء وطنه على أسس راسخة تضمن وحدة سوريا وسيادتها وأمنها واستقرارها. كما ساهم الاجتماع بشكل فاعل في قطع الطريق أمام مخاطر الحرب الطائفية في مهدها، من خلال تعزيز التنسيق لمكافحة الإرهاب، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين عودة طوعية آمنة ومستدامة إلى ديارهم، مع التأكيد على حماية حقوق جميع مكونات المجتمع السوري دون استثناء.
بالنسبة لتحليلنا حول الأبعاد الخفية والتأثيرات المستقبلية ,التي قد تكون ما تزال خافية وخارج نطاق التغطية الإعلامية وما يزال محبوس وراء الكواليس، يُظهر الدور “التركي-القطري” أبعادًا استراتيجية أعمق. بالنسبة لتركيا، كان الاتفاق وسيلة لتقليص النفوذ الأمريكي المباشر في شمال شرق سوريا، حيث كانت “قسد” تعتمد على دعم واشنطن. أما قطر، فترى في استقرار سوريا بوابة لتعزيز دورها كشريك اقتصادي رئيسي في المنطقة، مع إضعاف إيران التي تُنافسها على النفوذ في العراق ولبنان. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الموافقة على الاتفاق تعكس تحولًا نحو تقليص التزاماتها العسكرية في سوريا، مع الاعتماد على حلفاء مثل تركيا وقطر لإدارة الملف.
نحن نعتقد بان، تركيا وقطر قد نجحت معهم الحلفاء والمؤيدين من بقية الدول العربية والاجنبية وحتى مصر في تحويل أزمة وشيكة إلى فرصة لإعادة ترتيب الأولويات الإقليمية بالمنطقة. الاتفاق لم يُنهِ التوترات فحسب، بل وضع حجر الأساس لسوريا موحدة تُقاوم طموحات إيران في محاولة إعادة نفوذها الذي فقدته بعد سقوط نظام الأسد وتحجيم دور حزب الله في لبنان، وهو ما قد يُعيد صياغة التحالفات في الشرق الأوسط لسنوات قادمة.وبهذه الطريقة، يبرز لنا بان الاجتماع كان خطوة ضرورية ولها أبعاد استراتيجية ولم تكن مجرد داعم للاتفاق فحسب، بل كذلك حجر أساس في بناء رؤية شاملة لمستقبل سوريا واستقرار المنطقة بأسرها.
أما بالنسبة لنا وفي ظل متابعتنا التطورات الأخيرة، يبقى أن نطرح السؤال المحوري ولأنه ما يزال لنا معلقًا في الأذهان: هل نحن أمام سلام دائم يرسي أسس استقرار حقيقي، أم أنها مجرد هدنة مؤقتة تحمل في طياتها بذور انفجار أعظم قد يهز أركان المنطقة؟ هذا ما ستكشفه لنا الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة، وهو ما سوف سنظل نرصده بدقة وعمق ومن خلال متابعة حثيثة لمسار الأحداث. ونرسم اليوم ملامح صورة أولية استنادًا إلى ما تكشّف من تفاصيل حتى الآن وقراءتنا للوضع، وبينما نترقب ما ستجود به الساعات والأيام القادمة من مستجدات حول توقيع الاتفاق المرتقب بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والحكومة الانتقالية السورية الجديدة. ومع ذلك، تبقى الأنظار متجهة نحو ما سيترتب على هذا الاتفاق من تحديات عملية، ومدى قدرة الأطراف على ترجمة بنوده من حبر على ورق إلى واقع ملموس يمهد لسوريا جديدة، تترسخ فيها دعائم الاستقرار، وتنعم بظلال الأمان، وتتطلع إلى آفاق التقدم والازدهار.
هذا السيناريو الذي أردنا من خلال إعداده وتحليله وتقديمه للراي العام بهذه الصورة الموسعة , أن نسلط الضوء على ما جرى خلال “72” ساعة , بينما تبقى الأيام القادمة حبلى بالكشف عن المزيد من خفايا هذا الاتفاق السريع والمفاجئ ، فإن التساؤلات حول الأدوار الخفية والتوافقات غير المعلنة تظل مشروعة، في ظل ديناميكيات المنطقة المعقدة وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية.