نصر الله الداودي.. الصحفي المناضل

نصر الله الداودي.. الصحفي المناضل

لم أكن أعرفه من قبل مع أني سبقته في العمل الصحفي بسبع سنوات. أتذكر أنه دخل مبنى جريدة العراق في أحد شهور عام 1976 بعد أن حصل على أمر تعيينه في قسم المبرقات في الجريدة. لم يمر وقت طويل لينتزع من رئيس التحرير صالح الحيدري أمر نقله إلى القسم الرياضي الذي كان برئاسة عبد القادر العزاوي. وبما أن مبنى الجريدة لم يكن كبيراً وفيه عدد محدود من الغرف، فهو نفس المبنى الذي شغلته جريدة التايمس الإنجليزية منذ تأسيسها إلى تصفية عملها مطلع السبعينيات. ضم طابقين بممرين أرضي وطابق أول، في الطابق الأرضي توزعت معظم الأقسام عدا القسم السياسي ومدير الإدارة ورئيس التحرير حيث تقاسموا غرف الطابق الأول.

أما رئاسة مجلس الإدارة فقد تقاسمها الدكتور عبد الستار طاهر شريف وزير البلديات حينها وهاشم عقراوي وزير الدولة. في أحد أيام شهور 1976 جاءني نصر الله سعد الله الداودي حاملاً الأمر الإداري بنقله إلى القسم الرياضي قال لي: “أستاذ، أنا نقلت إلى القسم الرياضي. أين سيكون مكتبي؟ لم أجد مكاناً في القسم”. حينها كنت رئيساً لقسم المحليات ومشرفاً على القسم الفني. فبينما كان نصر الله متحمساً جداً، تلقى إجابتي بكل هدوء: “اجلب طاولتك وضعها هنا في غرفتي”. تفاجأ من جوابي، وسرعان ما بدا عليه الفرح الغامر لأنه سيكون لأول مرة بين رؤساء أقسام ومحرري الجريدة وجهاً لوجه.

كان نصر الله يُكنى “أبو شيلان”، شاباً خلوقاً جدياً متحمساً. حاول تعويض عدم تمكنه من مواصلة الدراسة لارتباطه بالعمل الحزبي وانخراطه في الفصائل الكردية المسلحة بالإنصات والتعلم والمتابعة. في البداية كان يتابع الصورة الخبرية ويجمع الأخبار الرياضية ويحضر الصور المطلوبة من الأرشيف. بدأ تدريجياً يجرب اقتراح العناوين ويضعها أمام رئيس القسم، لم يتحرج من السؤال والاستفسار عن كل صغيرة وكبيرة. كنت ألحظ حرصه على استلام أخبار قسم المحليات لقراءة العناوين الموضوعة والتعلم منها، ثم يسلمها للمطبعة. ومع مرور الوقت بدأ رئيس القسم يعتمد عليه في الكثير من الواجبات ومنها حضور مباريات كرة القدم والألعاب الرياضية المختلفة لتغطيتها خبرياً. تراكمت لديه المعلومات والخبرة، مكوناً علاقات بدرجات متفاوتة مع زملائه في المهنة، وكان ضمن البعثة الإعلامية المرافقة لمنتخب العراق لكرة القدم في كأس العالم في المكسيك سنة 1986. وبعد عدة سنوات، انتقل للعمل في الإدارة عندما تولى صلاح الدين سعيد رئاسة التحرير. فوجد في الإدارة ضالته والمساحة التي تمكنه من تحقيق رغباته وقد نجح تماماً في مهمته الجديدة التي امتدت إلى ما بعد 1991. وفي هذه السنة بالذات حدثت انعطافه في مسيرة “أبو شيلان” الصحفية عندما اختفى رئيس التحرير ليلة حرب الكويت 16/17 كانون الثاني 1991 وتحولت مهامه إليه فلم يكن في الجريدة بديلاً صحفياً كردياً مناسباً لتولي المهمة غيره، سيما أنه تدرج إلى المركز الأول في قيادة الحزب الثوري الكردستاني الذي أسسه الدكتور عبد الستار طاهر شريف بعد انشقاقه عن الحزب الديمقراطي الكردستاني منتصف سبعينيات القرن الماضي. ولا أعرف إن كانت للصحافة فضلاً عليه للصعود إلى مراكز متقدمة في الحزب، أم أن للحزب فضلاً عليه لتولي مركز رئيس تحرير جريدة العراق بديلاً عن رئيس التحرير المعاقب، أم علاقته مع صباح مرزا المرافق الأقدم للرئيس الأسبق صدام حسين.

خلال تولي نصر الله مهام رئيس التحرير، وظف الخبرات المهنية المتوفرة في الجريدة ومنها “أبو صارم” أحمد شبيب الذي أصبح نائباً لرئيس التحرير فيما بعد، وأكرم علي حسين الذي تولى مهام مدير التحرير، وموحان الظاهر وجاسم محمد سالم وطه عارف وزملاء آخرون أعتذر من ذكر أسمائهم. وبسبب انشغالي بالعمل في جريدة الجمهورية سكرتيراً للتحرير للأعوام من 1979م ولغاية 1991م، وهي السنوات التي شهدت حربين، الحرب الإيرانية والحرب الكويتية، لم أكن أملك الوقت الكافي لتبادل الزيارات مع الزملاء في المهنة ومنهم “أبو شيلان”، حيث كانت جل لقاءاتنا تحصل مصادفة في نادي الإعلام أو الندوات والمعارض الفنية واللقاءات والمهرجات الأدبية مع أن تواصلنا بواسطة الهاتف لم ينقطع في كل الظروف.

منتصف التسعينيات اتصل بي “أبو شيلان” ليبلغني أنه بحاجة ماسة إلى مناقشة موضوع يهم الجريدة معي. وبعد أيام تحقق اللقاء، طرح عليِ قرار مجلس إدارة الجريدة بالتعاقد مع شركة البركة للنشر والإعلان التي كنت مديراً مفوضاً لها لإدارة إعلانات الجريدة بعقد سنوي قابل للتجديد باتفاق الطرفين. وبما أن قدراً عالياً من الثقة يجمع بيننا، طلب مني تولي هذه المهمة. ولما كان التوجيه من الجهات العليا يتطلب تعاقد الجريدة مع مجموعة تضم أربع شركات، قمت بالاتصال بالدار الوطنية للتوزيع والإعلان العائدة لوزارة الإعلام يديرها حسين السامرائي، وشركة البحر يديرها خالد ناجي، وشركة الخليج للإنتاج السينمائي والتلفزيوني مؤسسها صلاح كرم، لتشكيل إطار يجمع هذه الشركات باسم “المجموعة”. بالفعل تم الاتفاق عدا شركة الخليج انسحبت لانشغال مديرها بالدراما، وعليه طلب الزميل رياض قاسم الذي كان يدير مكتباً للإعلان أن يكون بديلاً عن شركة الخليج، وهو ما حصل. بالفعل تولت المجموعة إدارة إعلانات جريدة العراق طوال أكثر من سنتين دون أن تحدث أية مشاكل تذكر في العمل، وتخلصت الجريدة بهذه الخطوة من الفساد الذي كانت تعاني منه في إدارة الإعلانات.

كان نصر الله يحب السهر ليلاً مع بعض أصدقائه المقربين في منزله الواقع في مزرعته التي كان حريصاً على إدارتها ورعايتها، لأنها محطة الاستراحة الوحيدة التي يجد فيها ملاذه بعد أسبوع شاق من العمل المتواصل. لا أعرف عدد المرات التي دعاني فيها لحضور مثل هذه الجلسات التي كانت لا تخلو من أحدث النكات، ومن نقاش حاد أحياناً عن الصحافة والثقافة والأدب والإصدارات الجديدة للكتب وأفلام السينما والمسلسلات وغيرها من مواضيع الساعة. وتجدر الإشارة إلى أن أحداً من أصدقائه المقربين لم يختلف معه أو يزعل منه، ولا أتذكر أن “أبو شيلان” قد أساء التصرف مع من يحيطون به في العمل، بل كان حريصاً على مساعدة الكثير منهم في الظروف الصعبة التي مرت على العراق أيام الحصار. وعندما دعاني للكتابة في الجريدة، طلبت منه أن يخصص أجور الأعمدة الصحفية لمساعدة من يستحق المساعدة من الزملاء، وهو ما حصل فعلاً لعديد السنوات.

استمر نصر الله الداودي رحمه الله في منصبه رئيساً لتحرير جريدة العراق حتى التاسع من نيسان 2003، يوم احتلال العراق من قبل أميركا وقوات التحالف. ومع أنه كان عارفاً بخفايا الأمور، لكنه أخفق في اختيار المكان المناسب له ولعائلته، وبذلك ودع الدنيا بطلقتين من خاطفيه قرب بيته في شارع فلسطين.

أحدث المقالات

أحدث المقالات