مَن يذكر كتاباً أصدره مفكّر أو كاتب محسوب على جماعة بريمير ويستحق القراءة ؟ ولنا أن نضيف إلى الكتاب المفقود , الفكرة والقصيدة والرواية واللوحة والمسرحيّة والفيلم والأغنية ؟ المشكلة ان التجارب الكثيرة تفيد أنّ أولئك الذين لم يصدروا كتاباً معتبرا, يملكون موقفاً حديديّاً , صارماً وشاملاً , من الشأن الثقافيّ فهم ضدّ من ينشط ثقافيّاً على نحو وطني , ويحاربون كل صوت عقلاني , وكل فكرة تسعى للتغيير الخلاق , ولا تبقي حتى في المؤسسات المعنية بالتفكير وصناعة الوعي كالمؤسسات الأكاديمية والثقافية والنقابيّة غير الهياكل الفارغة من الانتهازيين , الذين سينقلبون بدورهم إلى هياكل النظام التالي , ليصبح كل تغيير هو تحويلة مؤقتة من طريق إلزامي معبد بالصخر, إلى طرق ترابية هشة يحتفل بغبارها الانتهازيون في نوبة استبداد جديدة ذات ثوب ديمقراطي براق .
أذكر في أوائل ايام الشباب اني كتبت نصا لا أزال احتفظ به : (( كنت على بعد خطوة من ادراك العلاقة بين مرارة القهوة والحياة حين شخصت مصدر كآبتي المزمنه , أنه القهر الذي يمنعني أنا أبن المرحلة من التعبير عنها والخدمة فيها , وبسبب تكرار نقاشي مع المونولوج الداخلي , أذ يكون قهرك تحت الشعار الذي حاربت أنت أولا لترفعه وثانيا لتحققه , ولتحافظ عليه : أنت مقهور في مرحلة القهر , ثم أنت مقهور في مرحلة شعار (( قهر القهر )) , لأن المرحلة تحولت الى قهر القهر بالقهر , وتنفيذ العملية بالقصر والعميان والأنذال , وتفتح عينيك لتجد أنك مازلت أنت المقهور في المحصلة النهائية , والقاهر هو الوجه العتيق القديم )) .
لاشيء يدوم على حاله , الأشياء دائماً لها بداية ولها نهاية , وإذا كنت اليوم قوياً , فلا شك بأنك ستضعف يوماً ما , والتاريخ قاسٍ وعبثي وباطل , علينا الآن أن ننسى , وأن نبدأ من جديد , وسوف تمتلئ الصحف , كل يوم , بمزيد من أخبار الضحالات والغرور والقسوة الرهيبة , وبالطبع فنحن هنا لسنا أمام رواية للتاريخ والعالم , تبرّر لأصحابها قمع سواهم ممّن يخالفون تلك الرواية , وفي هذا السياق المفعم بالترميز, استُهدف بالتشهير أهمّ مفكري الوطنية , وفي أرقى أحوال التشهير, كان يُرفع في وجوه المُشهَّر بهم ((القانون)) في أشدّ تأويلاته ضيقاً وسلطويّة , وأصبح التذرّع بالقوانين ولو في أكثر أشكاله طلباً لإحقاق الحقّ , عرضة للطعن والتشكيك في ظلّ استيلاء احزاب ألأسلام السياسيعلى الدولة وعلى تأويل القانون .
ها نحن نرى ان كل الطرق تؤدي الى (( صفقة القرن )) , التي اصبحت حية على الارض تسعى , ولما تذكرت جملة من التراث العربي ذهبت مذهب الأمثال وتعود للعبّاس بن عبد المطّلب وهي ((خير البرّ عاجله)) , أستقويت بها وناديت : أعلانك موقف وطني لا يحتاج سوى أمتلاكك الشرف الوطني , ومن المستبد القمعي , لناكري الأوطان , ياشعبنا لا تحزن , ولكن كيف بالصراصير؟ جماعة تلكالقصة البسيطة , (( إذ يروى أن ناراً شبت في أعشاش النمل , فهبت العصافير الحرة تذهب إلى النبع وتملأ مناقيرها الصغيرة بالماء وترمي على الحريق , لكن كانت الصراصير تحمل في افواهها القذرة القش وترميه على الحريق كي تطيل مدته , وكما تعرفون , ليس لمناقير العصافير أن تطفئ النار , وليس للقش في أفواه الصراصير أن يزيد النار, إلا أننا عرفنا من الصرصور فيهم , ومن العصفور الطائر الحر .
التاريخ صفحة , سوداء أو بيضاء , أو قانية , عوّض الله بلدي عن قهر العقود , تذكرت قولا لأفريل هاريمان كان يدرس على طلاب الصف الأول سياسة في جامعة بغداد : (( ثلاثة امور لاتسمح بها اميركا في الشرق الأوسط : التعرض للنفط , وقيام حكومات اشتراكية , وقيام الوحدة بين العراق وسوريا ومصر )) , وحين راجعت أحداث التاريخ وجدت أن الغساسنة العرب نصبهم القياصرة ملوكاً على الشَّام , والمناذرة العرب نصبهم الأكاسرة ملوكاً على العِراق , وكلاهما كان على المسيحية , ولكن بالمذهب النَّسطوري بالمدائن , المخالف لمذهب الرُّوم , كان البَلدان ساحة لنزاع الإمبراطوريات العظمى آنذاك ((رومان وساسانيون )) , وانتهت تلك المقابلة مع الفتوح الإسلاميَّة, لكنها عقودٌ ويتقابل الشام الأموي مع العراق العلويّ ,والأشد كانت معركة صفين(37هـ) , حيث القائم اليوم غرب العِراق على الفرات , بعدها ظل العراق مكان الثَّورات ضد الشَّام , وأخطرها كان خروج ابن الأشعث(قُتل: 85هـ) , وآخر وقعة له مع الأمويين بـ)) ذات الجماجم (( حيث بابل , حتّى نصل إلى حكمهما مِن (( البعث )) فالنّظريّة واحدة , لكن الأمر بينهما كان أخطر مما بين الغساسنة والمناذرة , فمؤسس الحزب نفسه كان أميناً ببغداد, ومنبوذاً بدمشق , وكيفما تكن بغداد , تكن دمشق ضدها , ليستمر قهر العهود .
كيف يتم اعادة العلاقات الاجتماعية واعادة النسيج الجمعي المطرز بالطيبة ؟ كيف يتم اعادة المدن الى مدنيتها ؟ او الغاء الطائفية والعشائرية والثارات بين افراد المجتمع , ومن يصلح الاف الشهادات المزورة ؟ او القضاء على المخدرات والفساد المعشعش في كل مفاصل الدولة , كيف يتم الاصلاح وربابنة السفينة وقادتها هم انفسهم من يقود ؟ وهم الخراب بعينه ,
وما رأي المحلليين عبر الفضائيات , او المدنيون , او اساتذة الجامعة الذين تصدح اصواتهم بالاصلاح , الا تجدون ان الثوب الممزق كلما اعدت خياطة اجزائه المفتوقة , عاد ليمزق من جهة اخرى ؟ هذا هو حال قهر العهود .