مَنْ سَيَبْنِي غَزَّةَ … وجُمهوريةَ فِلَسطينَ المُتَّحِدَة؟

مَنْ سَيَبْنِي غَزَّةَ … وجُمهوريةَ فِلَسطينَ المُتَّحِدَة؟

نعم، العنوان صحيح وجادّ ولا مزاحَ فيه.
وإليكم الطريقة!
الخلاصة
نُبَيِّنُ في هذه الورقة الموجَزة الأسس المتينة والخطوط العريضة لمشروع شعبي عالمي ينطلق من الأمر الواقع بجوانبه الإيجابية والسلبية، ويستفيد من الإمكانات المتاحة، ويتخطّى سياسات الحكومات القائمة. وهذه المبادرة الشعبية العالمية لإعمار غَزَّةَ لا تقتصر على مشاركة الشعوب العربية والمسلِمة فقط بل تشمل كل شعوب العالم المُحِبَّة للسلام والخير والعدل والحق. ومِن المؤكَّد أن الشعوب جميعًا، وبدون الحكومات، قادرة على إعمار غَزَّةَ وإفشال الخطط الصهيونية المتداولة الآن في الشرق والغرب للقضاء على حقوق الشعب الفلسطيني تمامًا. ويتضمّن المشروع أيضًا إنشاء “صندوق هند رجب لإعمار غَزَّةَ”.

المقدمة
بينما تمتلئ الفضاءات بما يقوله أهل الإعلام عن هذا الزعيم أو ذاك الحاكم، ويُشبِعون المشاريع والخطط والمقترحات والمؤامرات تعليقًا وتحليلًا ونقدًا وتمجيدًا وتجريمًا، نحنُ نُركِّز هنا على المبادرات الشعبية الفردية والجماعية والمنظّمة. وربما تبادر حكومات بعض الدول بالمشاركة في الجهد الإنساني الكبير دون فرض شروط ومساومات وارتكاب جرائم إضافية فوق الجرائم البشعة ضد الإنسانية كَاْلّتي تمارسها دول محور الشر والإرهاب الدولي، وهي إسرائيل وأمريكا وبريطانيا. ومع أنّ كثيرًا من الحكومات استمرَّت بمساندة الكيان (الإرهابي العنصري الصهيوني العِبري الإسرائيلي اليهودي) بالسلاح والمال والتجسّس والمواد الغذائية والطبية والنفط والغاز، ومَنَعتْ إصدار أو تنفيذ القرارات الدولية لمعاقبة الكيان الإجرامي الصهيوني، قبل وخلال وبعد حملات الإبادة البشرية والمحرقة الإسرائيلية النازية، على مدى 16 شهرًا الماضية في قِطاعِ غَزَّةَ مِن فلسطين المحتلة على وجه الخصوص، لكن ظهر جليًّا أن شعوب تلك الدول لها مواقف إنسانية مناقضة تمامًا لحكوماتها. ومِن بين أكثر السلوكيات اللاأخلاقية والمثيرة للاشمئزاز أن رؤساء حكومات أمريكا وبريطانيا ودول أخرى الذين ساهموا علنًا وبشكل مباشر في جرائم الإبادة البشرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غَزَّةَ والضفة الغربية من فلسطين المحتلة نراهم الآن يسيل لعابهم للحصول على عقود مالية ضخمة من مجهود إعادة البناء والإعمار وبطرق وحِيَل إجرامية معروفة، ويتنافسون بطرح ما يسمونه الخطط والمشاريع الطموحة بشرط إبعاد الحكومة الفلسطينية بقيادة “حماس”.

القول الحاسم والفعل الصارم
وبهذا الصدد صَرَّحَ السيد أسامة حمدان، مسؤول العلاقات الدولية لحكومة “حماس” في قِطاعِ غَزَّةَ مِن فلسطين المحتلة، خلال جلسة “الشرق الأوسط أمام توازنات جديدة”، ضمن فعاليات منتدى مؤسسة الجزيرة الإعلامية في الدوحة عاصمة دولة قطر، يوم السبت 15 شباط/فبراير 2025، قائلًا: “نحن انتصرنا ولم نُهزَم، ولن نَدفعَ ثمنَ الهزيمة التي مُنِي بها الاحتلال تحت أيّ ظرف”. وأضاف أن “حماس لن تتنازل عن غزة ولن تَخرُج منها تحت أي تفاهمات، ولن تُقدِّم أي تنازلات ثمنًا لإعادة الإعمار”. وجاء في ردّه على سؤال من أحد الحاضرين: “اسمعوني جيدًا لِأُنهي هذا النقاش، إنّ أي أحد يَحِلُّ مَحل الاحتلال في غزة، أو أي مدينة في فلسطين، سنتعامل معه بالمقاومة فقط كما نتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أمر مَنهي وغير قابل للنقاش”. واعتبر حمدان أن “حماس” تدرك تمامًا أن تحدّي إعادة الإعمار سيتمحور حول الضغط على المقاومة كوسيلة لتقديم التنازلات، وكثمن وغطاء للهزيمة التي أصابت الاحتلال الإسرائيلي. وأشار القيادي إلى أن عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عزّزت في نفوس الشعب الفلسطيني أن إسرائيل يمكن أن تُهزَم بأبسط الأساليب والتجهيزات، وهذا ما شهده العالم عندما سحق المقاومون الجيش الإسرائيلي في غلاف غَزَّةَ، ودمّروا أسطورتهم في أقل من 4 ساعات.

مَن المُنتصِر … ومَن المُنهزِم؟
ولكن هل يمكن القول بأنّ “حماس” انتصرت على إسرائيل بالفعل، وكيف، وما هو المقياس؟ في الواقع ودون الخوض بتفاصيل كثيرة، مَنْ يُتابِع الإعلام العِبري الإسرائيلي والإعلام الصهيوني الغربي يرى ويسمع ويقرأ أنّ أعضاء حكومة الإرهابي نَتِن ياهو وأعضاء الكنيست وكبار ضباط الجيش والأمن والمخابرات وخبراء التحليل السياسي والعسكري والمستشارين في الكيان العنصري الإسرائيلي هم الذين يؤكِّدون حرفيًا بأن إسرائيل انهزمت و “حماس” انتصرت، ذلك لأنّ كل الأهداف التي أعلنها نَتِن ياهو وأعضاء حكومته الإرهابية من حرب الإبادة البشرية ضد غَزَّةَ لم تتحقّق إطلاقًا من خلال الجهد العسكري المكثف، بالرغم من أنّهم قتلوا وجرحوا وأعاقوا مئات الآلاف من الفلسطينيين المدنيين الأبرياء، ودمّروا حوالي تسعين بالمئة من الأحياء السكنية والمستشفيات والجامعات والمدارس والمساجد والكنائس والبنى التحتية الأخرى.

ويكفي أن نطَّلِعَ على أحدث إحصائية موجزة شاهدناها يوم الخميس، 20 شباط/فبراير 2025، وهو الموعد المتفَق عليه لتسليم جثامين 4 من الأسرى الصهاينة الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية أثناء حرب الإبادة البشرية الجماعية على سكان غَزَّةَ، حيث نَصَبَتْ كتائب عزّ الدين القسّام لافتة كبيرة، بعنوان، “النازية الصهيونية في أرقام”، فوق منصة التسليم إلى ممثلي منظمة الصليب الأحمر الدولية، بمدينة خانيونس، جاء فيها ما يلي: بَلَغَ عدد الشهداء أكثر من 61 ألف شهيد، بينهم 14 ألف شهيد ما زالوا تحت الأنقاض. وارتكب العدو الصهيوني 9,268 مجزرة خلال الحرب، وتسبَّبَ بأكثر من 111,000 إصابة. وأنّ 2,092 عائلة مُسِحَت من السجل المدني، وفي 4,889 عائلة لم يبقَ منها سوى فردٍ واحدٍ فقط. وثمّة 17,881 طفلًا قتلهم جيش الاحتلال، بينهم 214 رضيعًا وُلِدوا وماتوا خلال الحرب. كما فقد 38,000 طفل فلسطيني أحد والديهم، بالإضافة إلى 12,316 امرأة قتلتها الوحشية الصهيونية. هذا بالإضافة إلى حصار التجويع ونشر الأمراض ومنع المساعدات الإنسانية من قِبَل المنظمات غير الحكومية. بِاْختصار، استخدمت القوات العسكرية الإرهابية الإسرائيلية كميات من الصواريخ والقنابل والمتفجرات على قِطَاع غَزَّةَ ما يعادل ستّ (6) قنابل نووية من تلك التي أسقطتها الحكومة الإجرامية الأمريكية على السكان المدنيين بِاليابان في مدينتَي هيروشيما وناغازاكي في آب/أغسطس سنة 1945، وقتلت ربع مليون إنسان بريء.

لا توجَد مؤامرة في الخَفاء … وإنّما كلّ شيءٍ واضحٌ في العَراء
للإيجاز، نقول إنّ الثابت والمؤكَّد والموثَّق جيِّدًا، من التصريحات المباشرة أو التسريبات المقصودة، أن بعض الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية في مدينة رام الله بالضفة الغربية من فلسطين المحتلة بزعامة محمود عباس، إلى جانب حكومة الكيان العنصري الإرهابي الإسرائيلي بزعامة مجرم الحرب بنجامين نَتِن ياهو، وحكومة الإمبراطورية الإرهابية الأمريكية بزعامة المجرم الأحمق دونالد ترامب، كلّها متفقة علنًا وبدون شكٍّ على تنفيذ الخطة الصهيونية الأمريكية الإسرائيلية البريطانية المعلَنة. والخطة تهدف ظاهريًا إلى إعادة إعمار غَزَّةَ بأموال الدول العربية الخليجية النفطية، وبإدارة مصر والأردن والسعودية والإمارات العربية، وبإشرافٍ وتنفيذٍ أمنيٍ مباشر من قبل سلطة محمود عباس، وقوات عسكرية عربية وغربية. وذلك كله مقابل التفضُّل على الفلسطينيين بعدم “تهجيرهم إلى الدول المجاورة”، ولكن يجب إنهاء المقاومة الفلسطينية المسلحة، وطرد قيادات وحكومة “حماس” من قِطاع غَزَّةَ، وتخييرهم بالمنفى الراغبين به ومنحهم رواتب سخية على غِرار محمود عباس. لقد شاهد العالم كلّه الرئيس الأمريكي العنصري الأحمق دونالد ترامب مرات عديدة وهو يُنَكِّر ويستنكف من ذِكر اسم الفلسطينيين، ويتعامل مع الإنسان الفلسطيني كأنّه قطعة أثاث قديمة يمكن نقلها أو التخلّص منها أو رميها في الزبالة. ومِن الغريب أنّ مَن يتكلّم عن المشروع الميّت المزعوم المُسمّى “حَلّ الدولتَين” – أي دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل، كأنه لا يسمع ولا يقرأ ولا يشاهد ما يصرّح به المجرم نَتِن ياهو وأعضاء حكومته الإرهابية وأعضاء الكنيست الشاذّين أخلاقيًا والمجتمع العنصري الإسرائيلي المتطرّف، وكذلك دونالد ترامب وأعضاء حكومته ومعظم أعضاء الكونغرس؛ وكلّهم بلا استثناء يرفضون رفضًا قاطعًا قيام دولة فلسطينية حتى ولو بزعامة العميل محمود عبّاس، رغم أنه يعمل عندهم كالخادم المطيع. إنّ عبارة “حلّ الدولتَين” و “اتفاقيات السلام” المزعومة هي أكبر وأخبث خدعة مَرَّرَها الصهاينة في الغرب وفي الكيان الإرهابي العنصري في فلسطين المحتلة، حتّى وَقَعَ الزعيم الفلسطيني الراحلُ ياسر عرفات في هذا الفخ، وقام بتوريط منظمة التحرير الفلسطينية، وسبَّبَ انشقاقًا حادًّا وعميقًا بين فصائل المقاومة الفلسطينية، وما زال الفلسطينيون حتى اليوم يدفعون ثمنه من دمائهم الزكية وحياتهم الشقية.

السؤال الصهيوني بِاْمتياز: هل أنتُم معَ أو ضدّ “حماس”؟
تبدو الإجابة سهلة وتلقائية لدى شعوب العالم وهي أنهم عمومًا مع المقاومة الوطنية الفلسطينية بقيادة “حماس” والمنظمات الأخرى ضد الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي العنصري. أما في الدول الغربية “الحرة الديمقراطية” فالأمر على العكس تمامًا. لَطالما خرج علينا مُقدِّمُو البرامج التلفزيونية في الدول الأوروبية والأمريكية حيث يَسأل مُقدِّمُ البرنامج ضيفَه لإحراجه أمام المشاهدين: هل أنتَ مع أو ضد “حماس”؟ وهو يقصد بذلك أن “حماس” مُصنَّفة في بلاده بأنها منظمة “إرهابية”، وبالتالي، هل أنتَ تؤيِّد “الإرهاب” أو ضدّه؟ في الواقع هذا التوصيف بالإرهاب هو صهيوني إسرائيلي بحت ضد “حماس” وكل المنظمات والفصائل الفلسطينية المُقاوِمة للغزو والاحتلال والاستيطان الأجنبي والوجود الصهيوني اليهودي العنصري الأوروبي في فلسطين المحتلة. وكل الحكومات الإرهابية للكيان العنصري الإسرائيلي وكل وسائل الإعلام الغربية الصهيونية تستخدم توصيفات “الإرهاب ومعاداة السامية والمحرقة النازية واضطهاد اليهود” كأدوات فعالة جدًّا للإرهاب النفسي والإخصاء الفكري وتكميم الأفواه الحرّة في الدول الغربية المسيحية. وذلك بعدما استطاعت المنظمات الصهيونية في الدول الغربية خاصة إصدار تشريعات تحت مزاعم “مكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف وإنكار المحرقة النازية” بغرض ترهيب أي شخص قيادي حرّ في مجالات السياسة والدين والإعلام والاقتصاد والفنون والآداب. ومِن بين الطرق الخبيثة الملتوية التي يمارسها الإعلامي الصهيوني الغربي هو تخويف الناس عمومًا بأن “حماس” منظمة دينية إسلامية إرهابية تابعة لجماعات “إخوان المسلمين” ولها علاقات وطيدة مع العصابات الإرهابية الوهّابية المُسمّاة “داعش”.

لا خَلْطَ بين السياسة والمقاومة الوطنية ضد الاحتلال حتى لو اجتمعت في منظمة واحدة!
مِن حيث المبدأ يُمكِنُ لكل شخصٍ أن يتّفِق أو يختلف مع الجناح السياسي لحكومة “حماس” وينتقد سياستها في غَزَّةَ كيفما يشاء كأي حزبٍ سياسي آخر، ولكن لا يمكن ولا يجوز الاختلاف معها قطّ فيما يخصّ المقاومة الوطنية المسلحة ضد الغزو والاحتلال العسكري الأجنبي الإسرائيلي الصهيوني العنصري العِبري اليهودي. ذلك لأن مقاومة الغزاة المحتلين في أيّ مكان بالعالم، وبضمنها فلسطين المحتلة من قبل الصهاينة الغربيين، هي مسألة غريزية طبيعية فطرية تلقائية ومشروعة تمامًا ومنصوص عليها في الشرائع الدينية والقوانين الدولية والقرارات الصادرة من مجلس الأمن الدولي، ولا نقاشَ عليها إطلاقًا، ولا تحتاج إلى فتاوى دينية رسمية أو بيانات سياسية. وكلُّ مَن يُوجِّه تهمة الإرهاب للمقاومة الوطنية الفلسطينية فهو إمّا إرهابي صهيوني محترف، أو متواطئ مع الإرهابيين الصهاينة، لا سيما محور الشر والإرهاب الدولي المُكوَّن من إسرائيل وأمريكا وبريطانيا، أو مغفّل وجاهل ولا يفهم ما يقول، أو خاضع للتلويث الدماغي على مدى عشرات السنين.

“صندوق هند رجب لإعمار غَزَّةَ” … وأمور حيوية أخرى للحاضر والمستقبل
إنّ المشروع الذي نقترحه هنا هو خطة أصيلة تنبع من الجذور الشعبية في العالم العربي والإسلامي، بل وكلّ العالم، وتتخطّى الحكومات القائمة وسياساتها الملتوية وغير الإنسانية، وليست مجرّد خطة بديلة لما تقترحه هذه الحكومة أو تلك.
ولكن، هل توجد دلائل على إمكانية تنفيذ المشروع الشعبي الدولي لإعمار غَزَّةَ؟
نشير في البداية إلى الدلائل على إمكانية نجاح هذه الخطة الشعبية لإعادة بناء وإعمار غَزَّةَ، ثم الخطوات اللازمة للتنفيذ، ومنها:
أهمية عنصر المبادرة: برغم إحجام الحكومات عن منع التعامل مع الشركات المتعاونة والمتواطئة مع الكيان العنصري في فلسطين المحتلة إلّا أنّ الحراك الشعبي في مختلف أنحاء العالم، وبغضّ النظر عن القومية والدين ولون البشرة والثقافة، أدّى إلى إلحاق خسائر مادية فادحة بتلك الشركات، وأَثبتَ الناس الطبيعيون المستضعفون أنهم قادرون على معاقبة كلِّ من تواطأ مع المحرقة الإسرائيلية النازية الفاشية وحرب الإبادة البشرية ضد الفلسطينيين في قِطاع غَزَّةَ والضفة الغربية. ومن الأمثلة على ذلك شركات ستاربكس، كنتاكي، مكدونالدز، برغر كنك، كوكا كولا، بيبسي كولا، بابا جونز، بيتزا هَت، أميريكانا، نستله، بروكتر وغامبل، هوليت باكارد، إنتَل، هيونداي، أكسا، كارفور، وغيرها كثير. وهذا الجهد المنظَّم قام به الناس من تلقاء أنفسهم وبمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات الشخصية المباشرة ولم يستلموا رواتب أو مكافآت مالية مقابل جهودهم. إذًا، هذه المبادرات الفردية والجماعية قادرة على إحداث التغيير الإيجابي المطلوب.
أهمية الطبيعة البشرية: إنّ نَزعة الخير عند الناس أقوى بكثير من نزعة الشرّ عند الحكومات المختلفة. وتنطلق الفكرة الجوهرية من حقيقة أن الشعوب عمومًا تحبّ السلام والتعاون والتبادل الثقافي والتجاري على أسس إنسانية طبيعية. حيث يستند المشروع إلى القواعد الشعبية الواسعة في كل أنحاء العالم، ويتخطّى الحواجز والعراقيل التي تضعها الحكومات عادة لفرض الهيمنة وإذلال الشعوب الأخرى. وتنطبق هذه الحقيقة أيضًا على شعوب الدول العظمى مثل أمريكا وبريطانيا، ولكن بالتأكيد لا تنطبق على المجتمع الإسرائيلي المكوَّن من جماعات وعصابات مختلفة ومتنافرة ولكن تجمعها العقيدة السياسية العنصرية الصهيونية الإرهابية وما يرتبط بها من خرافات وأساطير التفوّق العنصري والحقد الشديد ضد البشرية والرغبة المُلحّة بالعنف والقتل والتدمير والإفناء والهمجية البشعة.
روح التحدّي والصمود عند الناس الأخيار الذين لم تُخِفْهُم سلطات الشرطة والجيش والأمن في شتّى أنحاء العالم، وضَلّوا يُنظِّمون المسيرات المناصِرة لحقوق الشعب الفلسطيني وإنهاء المجازر البشرية الإسرائيلية وقطع التسليح والتمويل للكيان العنصري الإرهابي في فلسطين المحتلة. وقد لجأت حكومات الدول الغربية إلى تشريع قوانين خبيثة مفصَّلة على مقاس الصهاينة الحاكمين، حيث تمنع انتقاد سياسة إسرائيل العنصرية الإرهابية وتحسبه “خطاب الكراهية ومعاداة السامية”، وتمنع مساعدة الشعب الفلسطيني بحجة أن “حماس” منظمة إرهابية، وكل من يؤيدها ولو لفظيًا فإنه يعرِّض نفسه لخطر السجن والغرامة والطرد من الوظيفة وغيرها من العقوبات التعسفية الظالمة. لكن حملات التخويف والترهيب الجسدي والفكري والنفسي في الدول الغربية عجزت أمام إصرار الناس على مناصرة الحق الفلسطيني ومكافحة الباطل الإسرائيلي. وهذا التأييد لفلسطين وغَزَّةَ جاء أيضًا من قِبَل الطوائف اليهودية الغربية المناهضة للصهيونية والكيان العنصري الإسرائيلي.
صحيح أن حكومات الدول الغنية والصناعية والعظمى تستطيع بعثرة أموال وموارد الشعوب الضخمة لتمويل مشاريع الخراب والدمار والحروب العدوانية، كما تستطيع منح بعض المساعدات بغرض الابتزاز ومقابل شروط قاسية ومجحفة ومنافية للإنسانية والأخلاق البشرية إلّا أنّ جمع الأموال واستثمار الأيدي العاملة والخبرات وتوظيفها للبناء والإعمار والتنمية البشرية يجري حاليًا بطريقة موازية أو بديلة لمواقف الحكومات الغربية خاصة، ويمكن استثمار هذه الطرق الجديدة لصالح أهل غَزَّةَ.
هنا يأتي دور المنظمات الخيرية الدولية غير الحكومية التي تعمل في قِطاع غَزّةَ والتي لا تخضع لسياسات الحكومات المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني، وتمارس نشاطاتها الإنسانية بكفاءة عالية برغم القيود والعراقيل التي تضعها سلطات الاحتلال الإرهابي الإسرائيلي العنصري واستهداف موظفيها بالقتل المتعمّد.
صندوق هند رجب لإعمار غَزَّةَ: تتولّى السلطة الفلسطينية برئاسة حكومة “حماس” التنسيق مع المنظمات الإنسانية غير الحكومية والدول الصديقة المناصِرة لحقوق الشعب الفلسطيني لإنشاء صندوق عالمي مشترك بعنوان “صندوق هند رجب لإعمار غَزَّةَ”، تكريمًا للطفلة الشهيدة بعمر ستّ (6) سنوات التي قتلها الجنود الجبناء من الكيان العنصري الإرهابي الإسرائيلي في (29 كانون الثاني/يناير 2024). ونظرًا إلى أن هذا الصندوق الخيري الشعبي العالمي ترأسه وتديره لجنة متحالفة من منظمات الإغاثة الإنسانية فلا تستطيع أية دولة غربية تابعة لأمريكا أن تعترض على هذا الإجراء أو تعتبر الأموال غير مشروعة وأنها تموِّل “منظمة إرهابية” معادية لإسرائيل. وبذلك لا يتعرض المتبرعون من الأفراد والجماعات والحكومات لأية مساءلة قانونية أو ملاحقة قضائية بتهمة “التبرع لمنظمة إرهابية”.
تتولّى حكومة السلطة الفلسطينية في غَزَّةَ بقيادة “حماس” التنسيق والإدارة لوضع سلّم الأولويّات كإزالة الأنقاض والاستفادة منها وتجهيز الخيام السكنية والمراكز الميدانية للتغذية والرعاية الطبية. وقد أَثبتَتْ “حماس” مِرارًا وتكرارًا كفاءتها العالية في إدارة وتوظيف الأموال للبناء والإعمار والتعليم والصحة والأمن، وغيرها. وتستطيع السلطة الفلسطينية استخدام الأنقاض والركام لتوسيع الشواطئ البحرية وإنشاء ألسنة ومرافئ بحرية كثيرة.
يتولّى الناشطون في حقوق الإنسان والإعلاميون المستقلون في شتى أنحاء العالم جهود الدعاية والتوعية وتوجيه المتبرعين إلى التبرّع في صناديق معروفة وحقيقية ونزيهة تابعة للمنظمات الإنسانية العاملة في قطاع غَزَّةَ لصالح “صندوق هند رجب لإعمار غَزَّةَ”.
تُعلِنُ حكومة “حماس” صراحةً أنّ الفلسطينيين يحتاجون إلى تعاون كل الشعوب للبناء والتنمية والتقدم، بعدما دمّر الأشرار الإسرائيليون كل شيء، ولا يحتاجون إلى مساعدات الحكومات الغربية للابتزاز والاحتلال المباشر وغير المباشر وإذلال الناس. كما تعلن حكومة “حماس” ترحيبها التام بالمساعدات الإنسانية غير المشروطة، ورفضها القاطع لأية مساعدة من حكومة أو منظمة تشترط أمورًا سياسية لا علاقة لها مطلقًا بعملية البناء والإعمار والتنمية. كما تركّز حكومة “حماس” على ضرورة توظيف الأيدي العاملة والعقول الفلسطينية المبدعة بحيث لا يبقى شخص عاطل. لقد أثبتَ فلسطينيو غَزّةَ أنهم أبطال حقيقيون لا نظيرَ لهم، وليسوا أبطالًا مزيّفين كمثل أبطال مؤسسة هوليوود الأمريكية. ويتمتّع أهلُ غَزَّةَ بدرجة متفوِّقة من الوعي الاجتماعي والسياسي بشكل ملفت للنظر.
انعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني في الدوحة عاصمة قطر للأيام من 17 إلى 19 شباط/فبراير 2025 بمشاركة 450 عضوًا من القياديين والمثقفين الفلسطينيين من كافة الفصائل الفلسطينية، وذلك “لمواجهة التحديات غير المسبوقة، سعيًا لتوحيد القيادة وإعادة بناء منظمة التحرير على أسس وطنية وديمقراطية”. ومِمّا جاء في البيان الختامي للمؤتمر الوطني الفلسطيني ما يلي: “أَكَّدَ المؤتمر على أن الانتخابات الديمقراطية التي يمارسها الشعب الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها، هي الآلية المثلى لإنجاز عملية إعادة بناء منظمة التحرير”. وأكد المؤتمر على حق الشعب الفلسطيني في النضال والمقاومة بالأشكال كافةً، بما ينسجم مع أحكام القانون الدولي، لضمان نجاح الفلسطينيين في إسقاط مشروع الاستعمار الاستيطاني وإنهاء الاحتلال ونظام الفصل العنصري.
في مقابلة للإعلامي أحمد منصور مع قياديَّين من “حماس” هما محمود مرداوي وجاسر البرغوثي في حلقة من برنامج “شاهد على العصر” من قناة الجزيرة يوم الأربعاء 26 شباط/فبراير 2025، كشفا أثناء اللقاء أن حكومة دونالد ترامب، ومن خلال صهره اليهودي جيرد كوشنر، عرضت على القيادي الشهيد الراحل يحيى السنوار في سنة 2017 إقامة دولة فلسطينية في قِطاعِ غَزَّةَ مِن فلسطين المحتلة ومعها منحة أمريكية فورية بمقدار 10 مليار دولار مع احتفاظ “حماس” بكامل أسلحتها وتنظيماتها وإدارتها، وضمان الاعتراف الدولي بها، مقابل الانفصال عن السلطة الفلسطينية في رام الله بقيادة محمود عباس، لأنهم كانوا منزعجين من فساده وفساد جماعته، على حدّ زعمهم. لكن السنوار رفض العرض رفضًا قاطعًا لأنه أدرك الفخ الخبيث الذي ينصبه الصهاينة الأمريكان للفلسطينيين، وهو ضم الضفة الغربية إلى الكيان العنصري الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
جمهورية فلسطين المتحدة: حاليًا تُوجَد سلطتان؛ السلطة الفلسطينية الشرعية في غَزَّةَ برئاسة حكومة “حماس” منذ فوزها في الانتخابات الوطنية التشريعية العامة سنة 2006، والسلطة الفلسطينية اللاشرعية في مدينة رام الله بالضفة الغربية برئاسة محمود عباس، الذي رفض نتائج الانتخابات الحرة الديمقراطية النزيهة بإيعازٍ من حكومة الاحتلال الإسرائيلي. ثم تبعتها حكومات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، حيث فَرَضت حصارًا صارمًا وظالمًا على قِطاعِ غَزَّةَ مِن فلسطين المحتلة، بالإضافة إلى حملات الإبادة الإسرائيلية المتكررة ضد الشعب الفلسطيني. لذا مِن الضروري أن ينتهي زمن الانتظار والمجاملات والمراهنات على الظروف المتغيرة، وأن تعرض “حماس” على سلطة محمود عباس رسميًا وعلنًا وللمرة الأخيرة أن تلغي اتفاقية “أوسلو” وكل الاتفاقيات اللاحقة مع العدو الإرهابي الصهيوني، وأن تنضم إليها في حكومة وفاق انتقالية تمهد لانتخابات حرة ديمقراطية نزيهة. وإذا رفضت جماعة محمود عباس هذا العرض تقوم “حماس” وحلفاؤها بإعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة في قِطَاع غَزَّةَ من جانب واحد بكل ما يترتب على ذلك من تبعات ونتائج محلية ودولية. وربما مِن المناسب تسميتها “جمهورية فلسطين المتحدة”، لأنها تريد توحيد الأراضي الفلسطينية كلها من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، وذلك انطلاقًا من غَزَّةَ. وعلى ضوء ذلك تَمُدّ السلطة الفلسطينية الغَزِّيّة أيادي التعاون إلى كل الدول الراغبة بإقامة علاقات المنفعة المتبادلة والتعاون الاقتصادي والثقافي والأمني والعسكري. ومن ناحية أخرى تَطلب “حماس” بكافة الوسائل الرسمية والإعلامية الذكية مِن كل شخص يحمل “الجنسية الإسرائيلية” أن يغادر فلسطين المحتلة طوعًا بأقرب فرصة ويعود إلى بلاده الأصلية من حيث جاء أو جاء أهله الغزاة المحتلون من أوروبا وأمريكا وغيرها، وذلك قبل فوات الأوان ونشوب حرب مدمرة واسعة بين الاحتلال الإسرائيلي الإرهابي المعتدِي وبين الدول المجاورة المُعتَدى عليها، وقبل حروب نهاية العالم أو “أرماجيدن” حسب الخرافات والأساطير التي يروج لها الصهاينة من بعض المسيحيين واليهود الغربيين المتطرفين.
بعد استيفاء كافة الشروط المنصوص عليها في لوائح الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، تتقدم السلطة الفلسطينية في غَزَّةَ بقيادة “حماس” بطلب الانضمام إلى الأمم المتحدة. كما تتقدم بطلبات مماثلة لعضوية جامعة الدول العربية، منظمة الدول الإسلامية، منظمة “بريكس”، منظمة “أوبيك”، مجموعة لاهاي، وغيرها. وسواء وافقت تلك الجهات على عضوية السلطة الفلسطينية في غَزَّةَ أو لم توافق في البداية، وهو المتوقَّع، فإن السلطة تعلن نفسها (كما ورد في الفقرة السابقة) دولة قائمة مستقلة ذات سيادة وحكومة شعبية حرة ديمقراطية وقوات مسلحة للشرطة والأمن والجيش والمخابرات والعَلَم السيادي والنشيد الوطني والعُملة الوطنية (الدينار والدرهم والفلس) وكافة البنى التحتية الضرورية للصحة والتعليم والتربية والبيئة والمصارف والنشاط الاقتصادي. والمؤكَّد يقينًا أن الدول الغربية بزعامة أمريكا لا تحترم إلا القوة والصلابة والعزيمة والإصرار والثبات على المبدأ والحقوق الشرعية. أما حكومات معظم الدول العربية والإسلامية فإنها تابعة للمعسكر الأمريكي ولا تتمتع بالقرارات السيادية المستقلة على مستوى السياسة الدولية. وعلى مدى 108 سنين لم يتعرّض أيّ شعب في العالم ما تعرَّض له الشعب الفلسطيني من حملات الإبادة البشرية والثقافية المنظَّمة والتهجير القسري والاحتلال العنيف وتغيير البنية السكانية على أيدي الإرهاب الصهيوني البريطاني واليهودي الأوروبي والأمريكي. لِذا ليس أمام حركات المقاومة الفلسطينية الوطنية، ومنها “حماس”، إلّا المضي قُدُمًا وفورًا لفرض الأمر الواقع ودون انتظار الموافقة من هذه الدولة أو تلك المنظّمة.
تأتي هذه المبادرة الشعبية الدولية ردًّا على التصريحات والتسريبات والمقترحات والمؤامرات التي انطلقت من المسؤولين في دول عديدة، لا سيما أمريكا وبريطانيا وإسرائيل، ورَدًّا على مؤتمر القمة العربية الذي تستضيفه الحكومة المصرية يوم 4 آذار/مارس 2025. ونحنُ نعلم جيّدًا حجم الخواء والدجل الذي يصدر من هذه المؤتمرات الخطابية المقرفة والمثيرة للسخرية والمليئة بالعَنْعَنة والأِذْأِذة.
نأمل ترويج هذا المشروع لإقامة “جمهورية فلسطين المتحدة” وأن يحظى بتأييدٍ شعبيٍ على مستوى شعوب العالم المُحِبَّة للسلام والخير والحق والعدالة الإنسانية، لِيدخُلَ حَيِّزَ التنفيذ عمّا قريب إِنْ شَاءَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ.

تأليف الدكتور علي جاسم العبادي

أحدث المقالات

أحدث المقالات