“عبد الله قاضي”.. الكون بالنسبة له قصيدة تمشي وتتحرك

“عبد الله قاضي”.. الكون بالنسبة له قصيدة تمشي وتتحرك

خاص: إعداد- سماح عادل

“عبد الله قاضي” شاعر يمني. ولد في تعز، المدينة التي اشتهرت بتنوعها الثقافي وثرائها الفكري، وتربي بين أحضان أدبائها وشعرائها. تخصص في اللغة العربية، حيث برز كعالم لغوي متميز، ووظف معرفته العميقة باللغة في صياغة قصائده التي جمعت بين جزالة اللفظ وعمق المعنى. امتدت مسيرته لأكثر من أربعة عقود، قدم خلالها عشرات الدواوين الشعرية والدراسات النقدية واللغوية، والتي أصبحت مراجع للباحثين والمهتمين.

“عبد الله قاضي”، أحد أبرز وجوه الجيل السبعيني في اليمن، ويعد من الرواد الذين حافظوا على الهوية اللغوية اليمنية في وجه التحديات، سواء عبر أشعاره التي تستحضر مفردات التراث، أو من خلال دفاعه المستميت عن الفصحى في وسائل الإعلام. يقول الناقد “علي حسن” عنه: “قاضي يجيد تحويل الكلمة إلى لوحة فنية، تختزل حكاية شعب بأكمله”.

من أعماله:

– ديوان “نقوش على جدار الزمن” الذي يزاوج بين الحداثة والتراث.

– دراسة “لهجات الجنوب: تحليل لغوي اجتماعي”، والتي سلطت الضوء على التنوع اللهجي في اليمن.

– مشاركته في إصدار “موسوعة تعز الثقافية”، كمشروع جامع للتراث المحلي.

قصة حزينة..

في مقالة بعنوان (الشاعر اليمني عبد الله قاضي.. القصة الحزينة لقصيدة النثر) كتب “أمين الجرادي”: “في سنة أولى جامعة أهداني أحد الأصدقاء مجموعة شعرية حملت اسم الشاعر اليمني عبد الله قاضي. الحقيقة كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها بـ عبد الله قاضي، وزاد من استغرابي أن هذا الشاعر، شيخ مُسن يتجاوز السبعين.

حين قرأت بعض نصوص تلك المجموعة شعرت أنني أقرأ ما لم أقرأه، وحين سألت وعرفت عن حياته أكثر، أدركت أن عبد الله قاضي هو بالفعل قصة حزينة على أهداب قصيدة النثر ليس على مستوى اليمن فحسب وإنما على مستوى البلدان العربية.

منذ سنوات بعيدة، بعيدة للغاية،  يعيش عبد الله قاضي، منعزلا عن العالم داخل كوخ صغير صنعه بنفسه داخل مقبرة، بمنطقة (بئر باشا)، إحدى ضواحي مدينة تعز اليمنية. ومع طلوع الشمس وانبلاج الشروق يطوف الأماكن من حوله ثم يعود إلى كوخه للقراءة ومحاكاة النفس”.

وتضيف المقالة : “عبد الله قاضي بشهادة من يعرفه عن قرب، مثقف واسع وقارئ كبير، يعوض العزلة بالقراءة والتفكر والتعمق في إرشاد الذات. رغم تهافت الأصدقاء ومحبي الثقافة والأدب في اليمن على محاولة إقناع عبد الله قاضي في الخروج من طقوس حياته التي اختارها، وبذل كل الإمكانيات، إلا أن عبد الله قاضي يقدم الاعتذار بكل لطف وحب.

حين سألت منذ متى بدأ عبد الله قاضي يعيش طقوس التصوف والعزلة، حدثني البعض: منذ أواخر السبعينيات، تقريبا 1978، الوقت الذي شهدت فيه اليمن مراحل من الصراعات ومسلسل الاغتيالات والصراع على السلطة. كان يومها عبد الله قاضي شاباً يقترب من الثلاثين أو يزيد، وبحسب ما حدثني الأصدقاء أن عبد الله قاضي كان وقتها أحد الشباب الذين تأثروا بالمد القومي الناصري القادم من مصر، وكان لابد للنظام الصاعد في ذلك الوقت بعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، أن يثبت نفسه ويقضي على محاولة الانقلاب التي طالته تحت تأثير ذلك المد، وحدث ما حدث من تصفيات طالت المئات من الرؤوس.

تلك المرحلة باعتقادي كان لها الأثر في إقناع عبد الله قاضي على اختيار نمط جديد من الحياة يقضيها في القراءة والتفكر وكتابة قصيدة النثر، ليس بالطريقة الاعتيادية، لكنه يكتب بطريقة أخرى هي أعمق وأوسع، وما زالت تلك الحياة التي اختارها منذ زمن بعيد مستمرة حتى اليوم. نعم أنها القصة الحزينة لقصيدة النثر التي بطلها شاعر عجوز، متصوف يعيش في عزلة عن هذا العالم، هذا الشاعر اسمه عبد الله قاضي”.

خريطة شعرية..

في مقالة بعنوان (عبد الله القاضي: خريطة شعرية للكون) كتب “د. حاتم الصكر”: “لم أكن قد التقيت الشاعر اليمني الشاب ذا الصوت السبعيني عبد الله القاضي أيام دراسته ببغداد المدينة التي ولدت فيها ونشأت ودرست في أمكنتها وأزمنتها . لكنني قرأت بعض أشعاره في الدوريات قبل لقائي به عام 1996 بصنعاء حين جئتها مدرسا وباحثا عن جوهرها الكامن وراء غلافها، فعرفت فيه شاعرا متميزا في لغته ورؤاه، وراح يذكرني بجيل شعري ناضج يمثله هو والمرحوم عبد اللطيف الربيع وعبد الودود سيف وشوقي شفيق ومحمد حسين هيثم وآخرون من الأصوات السبعينية التي يشهد لها بالمغامرة التجديدية وكتابة قصيدة الحداثة، في واحدة من أهم متواليات تطورها، وصولا إلى قصيدة النثر في مرحلتها الوسطى .

أطلعني الصديق الفنان التشكيلي حكيم العاقل على مسودات ديوان يجمع أشعار القاضي ، فتذكرت على الفور قصيدته عن الرسام الرائد هاشم علي التي أسرني فيها تمثله لعالم هذا الفنان المثابر في أدق مفرداته ، وأذكر أنني عبرت عن إعجابي بالقصيدة وإحاطتها بشخصية هاشم علي رساما وإنسانا لكنني لم أستطع فهم دلالة الكاذي في عنوان القصيدة (قبوة كاذي للرسام هاشم علي) ولدهشتي فقد كان عبد الله القاضي يحمل لي (في مكان عملي بالجامعة القديمة) صباح اليوم التالي وردة كاذي، ظل عطرها يفوح في غرفتي عدة أيام، ويتوازى حضوره الفضائي في الغرفة مع جسد قصيدته على الورق. والآن يلوذ القاضي بالصمت وكذلك تهجع أشعاره القليلة في صمت قاس ربما سيكسره الأصدقاء، لكن أسمه سيظل مميزا وخاصا على لائحة القصيدة الحديثة في اليمن”.

فلسفة..

في مقالة أخري بعنوان (عبد الله قاضي..عمق فلسفة وتهكم على الأمور الدنيوية) كتب “فتحي أبو النصر”: “عبد الله قاضي، شاعر ولغوي يمني، يعتبر أحد الرموز الأدبية المهملة والمنسية في عصرنا. رغم أن اسمه لا يتردد كثيرا في الأوساط الثقافية، إلا أن أثره الأدبي والفكري لا يمكن إنكاره. عرف قاضي بتواضعه الشديد وعشقه للعلم والمعرفة، حيث غاص في أمهات الكتب وتعمق في بحر اللغة العربية حتى أصبح فقيها لغويا متمكنا.

مثل عبد الله قاضي في مركز البحوث والدراسات اليمني كخبير وعلامة في اللغة. هام في التصوف حتى انه نام في المقابر. الشاعر الفارق بين جيله. أصحابه جمعوا له النصوص وهو لا يعرف وصدرت باسم “ندى لعشب جاف”. صاحب قصيدة “تعويذة للفتى ردمان”. يستلم راتبه ويوزعه قدام. لديه موقف كبير من الوجود والعدم. نشرت صحيفة الحياة ذات مرة حوارات معه عملها علي سالم المعبقي.  عبد الله قاضي اختار نهج حياته بوعي. في العراق أيام دراسته كان يصحح للدكاترة. عبد الله قاضي ارتقى لمستوى في الثقافة اليمنية لا يتكرر.

الزاهد الماركسي المتبتل. مرة خزنت بغرفته البسيطة بالصافية مكتظة بعيون الكتب. .خرجنا بعد المغرب لم يغلق الباب. .استغربت وسألته بعتاب ليش مش صحيح..قال بطمأنينة من الجميل أن يسرق أحدهم كتابا.  حفظه الله أينما كان. أعرفه انه في محراب للحنين يتنسك ويعوي للداخل”.

الشعر..

في حوار معه أجراه “علي سالم” في “المشهد اليمني”  يقول “عبد الله قاضي” عن الشعر: “ليست لي صلة بأي شيء. لا بالشعر ولا بغيره. صلتي الوحيدة بالموت. إنه الصديق الوحيد الذي أحاوره دائماً. الشعر كان الوجه الآخر للموت. وقد تقابلنا الآن وجهاً لوجه. لقد توافقت مع الموت أكثر مما أتوافق مع الشعر.

الحياة التي أعيشها هي القصيدة التي لم أكتبها بعد. قصيدة نحياها حياة. هذا إذا كنت تعدني من الشعراء. ربما كان مجيئنا إلى الشعر مجرد خطأ محض. لقد جئنا الشعر من دون اختيار أو إرادة. الشاعر الذي تعدوني إياه لا أعرفه. بل أنا أبحث عنه.

وعن القصائد التي تنسب إليه يواصل: “لم تعد تلك القصائد هي أنا. والأمر لا يستحق كل هذا العناء. كان الأمر محض تسلية ربما وقد تجاوزها الزمن. لربما لم تكن قصائدي من تلك القصائد التي تستعصي على الوقت. بل هي قصائد بليت وماتت. لو كانت قادرة على البقاء لبقيت. المرء يجد نفسه في مأزق عندما يصدق ما يقال عنه. لسنا على تلك الصورة التي يرانا فيها الآخرون. ليس هذا تواضعا أو غرورا. فلا يمكن للمرء أن يرى نفسه من بعيد”.

وعن فقان الشعر أهميته بالنسبة إليه يقول: “لا. فالشعر يكتسب الآن أهمية أكثر من أي وقت مضى. خصوصاً في هذه الأيام. لم يحدث أن فقد الشعر أهميته في أي وقت. ربما كان الشعر هو الوجود ذاته. عملية الخلق ذاتها شعر. والكون قصيدة تمشي وتتحرك، الأوهام والأماني والأحلام قصائد، معظم الحقائق أو ما نعدها حقائق ربما كانت مجرد أوهام. لربما كان الوهم أم الحقائق وأباها أيضاً. نحن لسنا كما نشاء أو كما نريد، بل هكذا يجد المرء نفسه. ربما لم أكن أكثر إخلاصاً ووفاء مع الشعر أو من محبيه الأوفياء.

وعن العزلة التي يعيشها يقول: “لست في عزلة. فأنا أعيش مع العالم من كل الجهات. وضعيتي التي تتحدث عنها لا تحتاج إلى تفسير. لربما كنا نحمّل الأشياء أكثر مما تحتمل، فأنا آخذ الأمور ببساطة وعفوية.  بالعكس. أنا مقترب منه بحميمية إلى حد الالتصاق، لدرجة أن الوجود صار يضيق مني ومن حضوري الطاغي، ولهذا كان الموت.

قصيدة “تعويذة للفتى ردمان”

عبد الله قاضي

منكسر كعصفور السبئيين

تستيقظ في ذاكرتي كآبةُ البحر

يرجمني الرمل مناديا:

” أصابه مسٌّ “

أخبئُ القمر في جيبي وأشردُ

صغيراً باكياً يشغفه الحب

نهراً مختوماً بالكآبة

مرتحلاً في أصواتِ طبولِ الليل

باحثاً عن سوقٍ آوي إليه

مشتملاً بعباءة الأسحار، أسمع الصدى مردداً:

” أصابه مسٌّ “

تحت سقف الزنك المقفل في الليل

أتكور هناك وأنام على يدي مثل كل الغرباء

وفي الحلم أستحيل طفلاً صغيراً يسير على حافة البحر

حيث الأشياء مغشاة بالطراوة

يقودني أبي العجوز وأقدامي تعبث بالرمل

إلى بلدٍ تملؤها الأعياد والبهجة

تملؤها الأشجار والماشية

تملؤها الحكايات ولا تعرف النقود

وأظل أسافر في أرض الحلم

وأبي العجوز يقص لي حكاياتٍ

تقودنا معاً إلى الجنة

معاً إلى بلد الخبز والدفء

وصوته يعلو مردداً:

” يا ردمان! الخبزُ والدفءُ أجملُ من الغيومِ والقمر“

وفي قلب الليل يهزمني البردُ والجوعُ

وتختفي أرضُ الأحلام

هذا الغريب المحزون

هذا الطفل الذي تغشاه القتامة

من يندب في مثل هذا الوقت من الليل

هذا الغريب يومئ إلينا بعينيه

أنظري أنظري

”هل أصابه مسٌّ”؟

تقول الزهرةُ للثريا:

”بل رميةُ سهم“

امنْحُه بكارة الحزن يا صبحه

وآصنعْ له

رئةً من حنين

وشبابةً من مطر..

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة