الموضوع الشيعي ـ السني في مشروعي البحثي

الموضوع الشيعي ـ السني في مشروعي البحثي

يلخِّص بعض المهتمين مشروعي البحثي والفكري في موضوع واحد، هو الموضوع الشيعي، لأنهم يرونني أركِّز في كتاباتي وأحاديثي على الفكر الشيعي والاجتماع الشيعي والحفر عميقاًفيهما، وهو نوع من الانغلاق والانغماس في اتجاه واحد كما يقولون.

   وهذا التلخيص غير صحيح ومجانب للحقيقة؛ فاهتمامي بموضوعات الفكر الإسلامي الشيعي والاجتماع الشيعي ومسارات الانقسامات الطائفية، هو جزء من مشروعي الفكري الإسلامي النهضوي، وليس كل مشروعي، ويتوضح ذلك عند مراجعة مؤلفاتي ودراساتي ومقالاتي؛ إذ أنني أكتب في إطار أربع دوائر: الدائرة العراقية، الدائرة الشيعية، الدائرة الإسلامية والدائرة العامة. وهي دوائر تكمل بعضها، وبينها عموم وخصوص، وكلها تصب في مشروعي الفكري الإسلامي النهضوي المعاصر. وأغلب كتابات في إطار هذه الدوائر هي كتابات تخصصية ومنهجية، لكن التخصص لا يعني انغلاقاً وانغماساً في اتجاه واحد، وإنما التخصص هو مطلب العصر، كالتخصص في أي شأن علمي آخر؛ إذ لا يمكن لأي إنسان، مهما بلغت موسوعيته، أن يتخصص في مجالات كثيرة.

مشروع نهضوي شامل

   تتنوع موضوعات مؤلفاتي وبحوثي بين الفكر السياسيوالاجتماع السياسي والقانون الدستوري الإسلامي والفقه السياسي الإسلامي، وبين تجديد الفكر الإسلامي والفكر الإسلامي المستقبلي واستشراف المستقبل الإسلامي، وكذلك الاجتماع الشيعي والفكر الفقهي الشيعي المعاصر، فضلاً عن تاريخ العراق السياسي المعاصر. وبالتالي؛ لا تقتصر كتاباتي على الموضوع الشيعي؛ بل أن هذا الموضوع هو جزء من مشروعي الإسلامي النهضوي العام كما ذكرت.

    وحتى مؤلفاتي وكتاباتي في الموضوع الشيعي؛ فهي ليست مذهبية أو دينية غالباً، إنما ترتبط بالاجتماع السياسي والاجتماع الديني والاجتماع الثقافي واجتماع المعرفة، أي أن هدفها تعريف الشيعي بمنظومته الفكرية واجتماعه الديني، وتعريف غير الشيعي بالشيعة والتشيع. وهذا التعريف هو الدافع الموضوعي؛ لأنني من خلال زياراتي المتكررة لأكثر من (20) بلداً عربياً ومسلماً وإقاماتي الطويلة في خمسة بلدان، ولقاءاتي بالمسلمين من كل المذاهب الإسلامية؛ وجدت أن أحد أهم مسارب الطائفية والتعصب المذهبي والطائفي، هو الجهل المتبادل، وعدم معرفة معتقدات وأفكار ومسارات أتباع المذاهب الإسلامية ببعضهم، وخاصة أتباع المذاهب السنية؛ فقد وجدت عدم معرفة عجيبة بمعتقدات وأفكار مدرسة آل البيت المعروفة بالمذهب الشيعي، واتهامات وافتراءات غريبة، لا تمت إلى الحقيقة والواقع بأية صلة.

   وأسباب عدم المعرفة هذه تعود إلى عاملين:

1- تعمد شيوخ أهل السنة تكريس حالة عدم المعرفة بالمذهب الشيعي في أوساط أتباع المذاهب السنية
2- عدم رغبة أتباع المذاهب السنية بالتعرف على المذهب الشيعي والشيعة.

   ولعل هذا الأمر يشكل مأزقاً معرفياً كبير حتى لدى النخبة السنية؛ فهي النخبة لا تعرف عن التشيع والشيعة إلّا من خلال كتب خصومهم. ومن مخرجات هذا الجهل المعرفي؛ ظهور مشكلة عند النخب السنية، السياسية والثقافية والدينية، من بينها أنها لا تزال تنظر إلى الشيعية بوصفهم أقلية مذهبية لا قيمة لها، ويمكن الاستمرار في تهميشها وعزلها، والحال؛ أن الشيعة هم أتباع ثالثأكبر مذهب إسلامي، بعد المذهبين الحنفي والمالكي؛ إذ يصل تعدادهم إلى حوالي (400) مليون نسمة، وهم الأغلبية السكانية في خمسة دول إسلامية، ويتواجدون بكثافة وفاعلية في كل دول العالم تقريباً، وهم اليوم يشاركون مشاركة أساسية في قيادة النهضة الإسلامية العالمية.

   وهنا تبرز المشكلة الثانية، التي تتمثل بتجاهل النخب السنية لهذا الدور الشيعي المركزي إقليمياً ودولياً، بما في ذلك دور الشيعة العرب، ومحاولة إعاقته والانتقاص منه، سياسياً وإعلامياً وأمنياً، مع أنه دور يصب في مصلحة جميع المسلمين.

   أما المشكلة الثالثة؛ فتتمثل في اتهام الشيعة العرب بأنهم تابعون لإيران، وأنهم ينفِّذون أجندات إيرانية، وهي تهمة تنم أيضاً عن جهل عميق بالمسألة الشيعية؛ فالشيعة بطبيعة تكوينهم منذ (1400) عاماً،هم نسيج اجتماعي ديني شبه واحد، ويجمعهم نظام اجتماعي ديني شبه موحد، ومرجعيات قيادية دينية واحدة، وحوزات علمية واحدة، وعادات وتقاليد وطقوس دينية اجتماعية واحدة، ومراقد دينية واحدة، والأهم من كل ذلك المظلومية التاريخية الواحدة، وإحساسهم بالاستهداف المشترك. وهذا الكم من العناصر التي تجمعهم هي أكبر بكثير من اللغات والقوميات والأنثروبولوجيا التي تفرِّقهم. وهذا الواقع لا يمكن لأحد تغييره مهما بلغت سطوته، وهو ما جربته السلطات الأموية والعباسية والعثمانية، وصولاً إلى الأنظمة الحالية؛ إذ يستحيل تمزيق النسيج الاجتماعي الديني الشيعي؛ لأنه نسيج عقدي، وينبغي التعامل معه كما هو، لا كما يريد الآخر المذهبي والسياسي والحكومي.

الانفتاح المتبادل للنخب السنية والشيعة

   أنا أؤمن بالحوار مع المختلف الفكري والديني والمذهبي، بالتي هي أحسن، وأنطلق من المشتركات، وأحب أن أستفيد من الجميع معرفياً، لأن الحكمة ضالة المؤمن.  وأرفض المواجهة العنيفة، حتى المواجهة العنيفة بالكلام، ولم أرفض يوماً الحوار مع ملحد أو شيوعي أو علماني أو سني أو وهابي؛ باستثناء المعادي والمحارب؛ لأن الآخر العنيف والمحارب ينطلق من خلفية إلغاء الآخر وعزله واغتياله معنوياً، وبالتالي؛ ليس من العقلانية الدخول في مهاترات وعنف كلامي وجدل لا طائل منه مع هذا النمط من البشر. ويمكن في هذا المجال مراجعة أرشيف مقابلاتي وحضوري المؤتمرات والندوات الدولية والمحلية وزياراتي إلى المساجد والكنائس والمعابد في عشرات الدول، والتي أتحاور فيها مع الشيعي والسني والوهابي والدرزي والكاثوليكي والأرذثوكسي والبروتستانتي والإنجليكاني والبوذي والهندوسي والسيخي واليهودي، وكذلك مع الملحد والشيوعي والعلماني والربوبي، دون أي ممارسة حادة أو عنف كلامي. ولدي صداقات مع كثير من هؤلاء، وتستمر هذه الحوارات والصداقات؛ لطالما كان الآخر يحترم خصوصيتي الفكرية والدينية والمذهبية، ولا يمارس معي سلوكيات الازدراء والعدوان والإلغاء، وهو ما أفعله أيضاً.    

   وانفتاحي على النخب السنية قديم وقائم، فقد كنا نقول دائماً لأهلنا وأصدقائنا في المؤسسات الدينية والحكومية السنية والحركات الإسلامية والقومية السنية، بأن ما تقومون به من تجهيل لعموم السنة وتحريضهم ضد الشيعة إعلامياً وسياسياً وطائفياً، والعمل على محاصرة الشيعة وتهميشهم والضغط عليهم؛ يؤدي إلى ردود فعل عكسية. في حين أن التعامل بتوازن مع الشيعة كمجتمع ديني، ومع جماعتهم كجماعات دينية أو سياسية لها ما للجماعات السنية من الحقوق والحريات، ومع مؤسستهم الدينية كالتعامل مع المؤسسة الدينية السنية، ومع الشيعي كمواطن مسلم له الحقوق والحريات السياسية والمدنية والدينية نفسها التي يتمتع بها السني؛ سيقضي على الطائفية والتعصب، وستخلق مظاهر حقيقية للتواد والتراحم والتعايش والتعاضد والتعاون بين جميع المسلمين.  

   وهذا ما أقوم به بالضبط في مؤلفاتي وكتاباتي في الشأن الإسلامي العام والشيعي الخاص؛ أي محاولة تفكيك المشكلة الطائفية عبر الكشف عن مظاهرها المعاصرة، والدعوة لاجتثاثها، والتبشير بواقع عربي وإسلامي متعايش ومتضامن. وجزء من مظاهر هذه المشكلة هو الجهل كما ذكرت، و((الإنسان عدو ما يجهل)). وأعتقد أن التعارف العقدي والفكري والمذهبي بين المسلمين،هو مدخل الحوار، والحوار هم مدخل التفاهم، والتفاهم هو مدخل تقارب المسلمين وتعايشهم وتعاونهم، وخاصة بين العرب الشيعة والعرب السنة، والتعايش هو مدخل وحدة الأوطان، ووحدة المسلمين في مواجهة التحديات العميقة التي تواجههم، سواء في مجال السياسة الدولية والإقليمية أو المجال الاقتصادي والتنموي أو المجال العلمي والثقافي. ولذلك؛ وجدت أن المصلحة الإسلامية العامة، ومصلحة الشيعة والسنة معاً؛ تقتضي أن أقوم بهذا الدور المهم؛ فنشرت عدداً من المؤلفات والبحوث التي وجدت أصداءً طيبةً، حتى عند بعض النخب السنية المعتدلة، وبالتالي؛ أجد أنني استطعت النجاح نسبياً في هذا المجال.

   إنّ الخلل يكمن في الجهل بحقائق التشيع وأصوله وفقهه وتاريخه ومساراته وواقعه، كما ذكرت، وهذا الجهل مرده إلى النخب السنية، بكل عناوينها؛ فهي تصر على الجهل وتتعمد تجهيل قواعدها؛ فترى الأنظمة السنية تمارس التعتيم بأبشع صوره، وترفض نشر كتب الشيعة وإصداراتهم ومجلاتهم، وترفض حضور علماء الشيعة بين الناس في بلدانهم وفي وسائل الإعلام بهدف التوضيح ورفع التهم والشبهات، وتشوّه التاريخ والعقيدة في الكتب الدراسية، وفي وسائل إعلامها. وفي الوقت نفسه يصمت بعض علماء السنة وخطبائهم وكتّابهم حيال توضيح الأخطاء الذين يعلمون بها جيداً، فيما يمارس بعضهم الآخر حملات عنيفة ضد التشيع والشيعة، تصل إلى حد التكفير.  

   ولا يقتصر الأمر على الأنظمة والمؤسسة الدينية وجماعات الخطباء والإسلاميين، الحركيين منهم والسلفيين، بل يتعداه إلى المؤسسات الإعلامية العلمانية السنية، كالقنوات الفضائية والإذاعات والمجلات الصحف، وهي ذات خطاب علماني، لكنها طائفية في الوقت نفسه حيال الشيعة والتشيع؛ فتجدها تمارس غزواً إعلامياً شديداً ضد الشيعة، ليس في الأخبار والتقارير والبرامج، بل حتى في الأعمال الدرامية والسينمائية. وبذلك تجد أن الشيعة منذ مئات السنين وحتى الآن يتعرضون إلى أبشع حملات التشويه والتشنيع والشتائم، وهي حملات لا شك تؤثر في عقول الناس الظاهرة والباطنة، وتخلق من الشيعي في أذهانهم كائناً غريباً لا ينتمي إلى العقيدة والشريعة والأوطان.

   صحيح أن واجب النخب الشيعية إيصال صوتها إلى مثيلتها السنية، ولكن لا أرى أن النخب الشيعية مقصرة في هذا المجال؛ فهي ناشطة في مجال التأليف والبحث العلمي، وتنشر سنوياً مئات الكتب، للتعريف بعقائد الشيعة وفقههم وتاريخهم وواقعهمومجتمعاتهم، لكن النخب السنية وعموم أهل السنة لا يقرأون هذه الكتب والمنشورات إلّا نادراً، لأسباب نفسية غالباً، ويفضلون قراءة الشيعة من خلال خصومهم. صحيح أن الخطاب الإسلامي الشيعي يُقابَل بكل أنواع الحجر والعزل والمنع؛ لكن يستطيع أي سني أن يطلع على حقائق الشيعة من كتبهم التي تمثل الخط العام بكل سهولة؛ فهي موجودة بآلاف العناوين في دور النشر وفي المكتبات وعلى مواقع الإنترنيت والمكتبات الإلكترونية، وكذلك في القنوات التلفزيونية الفضائية، التي يزيد عدد الناطقة بالعربية منها عن مائة قناة تلفزيونية شيعية باللغة، وبالتالي؛ لا توجد حجة لدى أي شخص بأنه لا يعرف ولا يفهم ولم يطلع ولم يقرأ.

   وأعود وأقول بأن المعرفة تخلق الحوار الموضوعي، وصولاً إلى التفاهم والتقارب النفسي، والوحدة بين المسلمين على أساس المشتركات، وهي أكثر مما يفرقهم.

   وأود هنا الإشارة إلى قضية قَدَرية مهمة تتعلق بهذا الخطاب المشترك الذي هو قوام النهوض العربي والإسلامي. فقَدَر النهضة العربية والإسلامية المعاصرة أنها تحلق بجناحين، هما: الجناح الشيعي والجناح السني، ولا يمكن إطلاقاً، لأي منهما تجاهل الآخر وإعاقة حركته أو استئصاله؛ لأنه سيؤدي إلى سقوط العرب والمسلمين جميعاً. في حين أن دعم الجناحين لبعضهما سيحقق قدرة هائلة على النهوض والنمو والصعود والنمو الشامل. وأنا من خلال كتاباتي أدعو إلى تكريس قوة الجناح الشيعي وتكريس رصانة الجناح السني؛ ليحلقا بالنهضة بالتوازن نفسه. هذا قدر الطرفين، ويستحيل تغيير هذا القدر بأي شكل من الأشكال.

المراجعات التاريخية الضارة والنافعة

   المراجعات التاريخية المرتبطة بمسارات الانقسامات بين المسلمين،على نوعين: المراجعات الموضوعية العلمية التي تهدف إلى توضيح الحقائق وكشف عوامل الفُرقة والطأفنة والتعصب المذموم، ومحاولة تفكيكها، وصولاً إلى هدف ترميم الفجوات النفسية والواقعية والفكرية والتشريعية بين المسلمين. وهذه المراجعة مهمة وضرورية، وأنا شخصياً ألجأ إليها، ومما كتبته في هذا المجال كتاب: «المنظومة الطائفية: من الخطاب التأسيسي للمسلمين وحتى الغزو الطائفي المعاصر» في (520) صفحة، بهدف الحفر في بنية المنظومة الطائفية في تاريخ المسلمين وواقعهم، وتفكيكها، وطرح قواعد عقدية وفقهية وواقعية لتعايش المسلمين ووحدتهم.

   أما النوع الثاني؛ فهي القراءة التاريخية السلبية، التي تهدف إلى نبش الوقائع الجدلية السوداء، بما فيها المختلقة وغير الصحيحة وغير الثابتة، واجترارها وتلميعها وإعادة تسويقها بأسلوب فتنوي، بهدف تعميق الشقاق بين المسلمين، وإنتاج مظاهر طائفية بغيضة. وهذا اللون من المراجعات سيء ومرفوض ويعود بالضرر على الجميع، سواء كان من يقف وراءه سنياً أو شيعياً.

   والحقيقة أن القراءة الأيديولوجية المسيسة الطائفية للتاريخ تنتج مظاهراً طائفية لا محال، أما المراجعة الموضوعية العلمية فهي تنتج مظاهر مودة وألفة. ولا أقصد هنا أن نقوم بتمييع الحقائق وتزوير التاريخ والعبور على الخلافات العقدية والفقهية، على شاكلة: ((سيدنا معاوية قتل سيدنا حجر))؛ إنما القصد هو البحث التاريخي الموضوعي المنتج والمفيد لواقعنا، والذي يشكل ركائز للاعتبار؛ للحيلولة دون تكرار السيء في تاريخنا؛ ولا أعتقد أن أي مؤرخ، سنياً كان أو شيعياً، سيأتي بجديد بشأن الوقائع الجدلية السوداء في تاريخ المسلمين، بل هو مجرد اجترار لا جدوى منه، ويكفينا ما لدينا من آلاف الكتب التراثية والجديدة في هذا المجال. ومن الأحرى بمفكرينا وباحثينا وعلمائنا البحث في تقويم حاضر الأمة ومستقبلها.