تواجه الحركات الثورية تحديات هائلة خلال الأزمات، إذ غالبًا ما تتعرض لاهتزازات تنظيمية قد تؤدي إلى إضعافها أو حتى تفككها. تنبع هذه الهزات من عوامل داخلية وخارجية تؤثر على تماسك الحركة، واستمرارها، وفعاليتها في تحقيق أهدافها. في هذا المقال، سنستعرض الأسباب العميقة وراء هذه الاهتزازات، ونقدم أمثلة تاريخية لحركات تعرضت لهذه الظاهرة، ونناقش الدروس المستفادة التي يمكن أن تساعد الحركات الثورية على تجنب هذه الإشكاليات.
غالبًا ما تواجه الحركات الثورية قمعًا عنيفًا من قبل الأنظمة التي تسعى لإجهاضها في مهدها أو تفكيكها بعد انطلاقها. يشمل هذا القمع الاعتقالات الواسعة، والتصفية الجسدية للقيادات، والملاحقات الأمنية، ما يؤدي إلى فراغ في القيادة وانهيار منظومة الاتصال الداخلي للحركة.
في الأوضاع العادية، قد تتمكن الحركات من احتواء الاختلافات الداخلية، لكن عند وقوع الأزمات، تصبح هذه الخلافات أكثر حدة، وقد تؤدي إلى انقسامات داخلية تهدد تماسك الحركة. فغالبًا ما تظهر تيارات متباينة بين من يريد التصعيد العسكري، ومن يفضل المسار السلمي، ومن يسعى إلى المفاوضات، ما قد يؤدي إلى تفكك الحركة أو تشظيها. وهذا ما حصل مع الثورة السورية على سبيل المثال (2011 – حتى الآن) مع اندلاع الثورة السورية، ظهرت العديد من الفصائل المسلحة والتنظيمات السياسية التي ناضلت ضد النظام، لكن مع مرور الوقت، شهدت هذه الفصائل انقسامات حادة بسبب التنافس الأيديولوجي والتدخلات الخارجية. تفككت بعض التنظيمات نتيجة الاختراقات الأمنية ونقص الموارد، كما أدى تباين الاستراتيجيات بين الفصائل إلى صراعات داخلية أثرت على فاعلية المقاومة ضد النظام
تعتمد الحركات الثورية على الدعم الداخلي أو الخارجي لضمان استمرارها، لكن خلال الأزمات، قد تتقلص هذه الموارد بسبب الحصار أو تراجع الدعم الشعبي أو تقييد التمويل الخارجي. يؤدي هذا النقص إلى ضعف القدرة على التخطيط والتنفيذ، مما يخلق حالة من الارتباك داخل التنظيم. مثل ما حصل مع حركة “البوليفيايرو” بقيادة تشي غيفارا (1966 – 1967)عند انتقال تشي غيفارا إلى بوليفيا لمحاولة إشعال ثورة، واجهت حركته اهتزازات تنظيمية حادة بسبب ضعف الاتصال مع الجماهير المحلية، والاختراقات الاستخباراتية، وغياب الإمدادات الضرورية. أدى ذلك إلى عزل المجموعة الثورية وانتهى الأمر بتصفيتهم من قبل الجيش البوليفي بدعم من الاستخبارات الأمريكية.
تسعى الأنظمة دائمًا لاختراق الحركات الثورية عبر زرع جواسيس وعملاء داخلها، ما يسبب ارتباكًا داخليًا ويفقد الأعضاء الثقة ببعضهم البعض، وقد يؤدي ذلك إلى تصفية داخلية بين القيادات، أو انهيار الهياكل التنظيمية بسبب تضارب المعلومات والشكوك المتبادلة. مثلما تعرض له حركة “الفهود السود” في الولايات المتحدة (1966 – 1982)
كانت هذه الحركة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والدفاع عن حقوق السود في أمريكا، لكنها تعرضت لاختراقات كبيرة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ضمن برنامج“COINTELPRO”، مما أدى إلى تفكيك التنظيم وخلق صراعات داخلية ساهمت في إضعافه تدريجيًا.
تعتمد الحركات الثورية على الحاضنة الشعبية لضمان استمراريتها، لكن في بعض الأحيان، وبفعل حملات التضليل الإعلامي أو طول مدة الصراع دون تحقيق نتائج ملموسة، قد تفقد الحركة ثقة الجماهير، ما يؤدي إلى عزلة سياسية وتنظيمية تزيد من ضعفها.
في فترات الأزمات، تحتاج الحركات إلى قرارات حاسمة ومتماسكة، لكن عندما تغيب الرؤية الواضحة، قد تتخبط القيادات في اتخاذ القرارات المناسبة، ما يؤدي إلى حالة من الفوضى الداخلية التي تهدد استمرار الحركة. أدت التباينات بين قيادات الداخل والخارج في جبهة التحرير الوطني الجزائرية إلى اضطرابات داخلية كادت تؤثر على مسار الكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي. حين شهدت خلال لثورة الجزائرية (1954 – 1962) خلافات تنظيمية حادة، خاصة بين الجناح السياسي والعسكري
يمكن للحركات الثورية أن تتجنب هذه الاهتزازات التنظيمية عبر اتباع استراتيجيات محددة، من بينها: بناء هيكل تنظيمي مرن يسمح باستمرار الحركة حتى في حال تصفية بعض القادة، عبر توزيع الصلاحيات وعدم تمركز السلطة في يد قلة من الأفراد. تعزيز السرية والأمن التنظيمي لمنع الاختراقات الأمنية والاستخباراتية التي قد تؤدي إلى تفكيك الحركة من الداخل. وضع استراتيجيات متعددة لمواجهة الأزمات، بحيث لا تعتمد الحركة على خطة واحدة قد تنهار عند أول ضربة من النظام أو القوى المعادية. تجنب الخلافات الداخلية الحادة عبر تعزيز الحوار الداخلي وإيجاد آليات فعالة لحل النزاعات بين الأعضاء دون اللجوء إلى الانقسامات الحادة.الحفاظ على الحاضنة الشعبية عبر التركيز على كسب تأييد الجماهير وتقديم حلول فعلية لمشاكلهم، بدلًا من الانشغال بالصراعات الداخلية أو التركيز فقط على الجانب العسكري.
تعاني الحركات الثورية من تحديات هائلة خلال الأزمات، وغالبًا ما تكون هذه التحديات سببًا في اهتزازها أو تفككها. ومع ذلك، فإن الحركات التي تتعلم من أخطاء الماضي وتعتمد استراتيجيات مرنة ومستدامة تكون أكثر قدرة على الصمود وتحقيق أهدافها. فالتاريخ مليء بالدروس التي تؤكد أن الحركات الأكثر تنظيمًا والأكثر تماسكًا هي التي تنجح في النهاية، بينما تسقط الحركات التي تفشل في إدارة أزماتها الداخلية والخارجية.