23 فبراير، 2025 1:36 م

مقامة أفعى الكعبة

مقامة أفعى الكعبة

قررت قريش بناء الكعبة التي كانت حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفا لهم , لأن السيول كانت تأتي من فوقها من فوق الردم الذي صنعوه , فخربه فخافوا أن يدخلها الماء , وكان رجل يقال لهمليح سرق طيب الكعبة فأرادوا أن يشيدوا  بنيانها , وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا فأعدوا لذلك نفقة وعمالا , ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الله , فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئا الوليد بن المغيرة , فزعموا أنهم رأوا حية رأسها كرأس الجدي وبطنها أبيض وظهرها أسود كانت قد أقامت فيها خمسمائة عام , وقد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها فأشفقوا منها شفقة شديدة , وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة , وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس , وشرفا لهم فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم , قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان من نصحه لهم , وأمره إياهم أن لا يتشاجروا ولا يتحاسدوا في بنائها , وأن يقتسموها أرباعا , وأن لا يدخلوا في بنائها مالا حراما , وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء وتغيبت عنهم , ورأوا أن ذلك من الله .

وكان أبا وهب خال أبي رسول الله , وكان شريفا , أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها فوثب من يده , حتى رجع إلى موضعه , فقال عند ذلك ‏‏:‏‏  (( يا معشر قريش , لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا , لا تدخلوا فيها مهر بغي , ولا بيع ربا , ولا مظلمة أحد , من الناس )) ‏‏, قال ابن إسحاق في السيرة ‏‏:‏‏ فلما بلغ رسول الله خمسا وثلاثين سنة , اجتمعت قريش لبنيان الكعبة , وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها , وإنما كانت رضما فوق القامة , فأرادوا رفعها وتسقيفها , وذلك أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة , وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة , وكان الذي وجد عنده الكنز دويكا مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة , قال ابن هشام ‏‏:‏‏ فقطعت قريش يده ‏‏, وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك ‏‏,‏‏ وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم وتحطمت , فأخذوا خشبها , وأعدوه لتسقيفها , وكان بمكة رجل قبطي نجار , فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحه ‏‏,‏‏ وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم , فتتشرق على جدار الكعبة , وكانت مما يهابون , وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها , وكانوا يهابونها , ‏ فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة , كما كانت تصنع , بعث الله إليها طائرا فاختطفها , فذهب بها , فقالت قريش ‏‏:‏‏ إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا , عندنا عامل رفيق , وعندنا خشب , وقد كفانا الله الحية ‏‏.‏‏

ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه , فقال الوليد بن المغيرة ‏‏:‏‏ أنا أبدؤكم في هدمها , فأخذ المعول , ثم قام عليها , وهو يقول ‏‏:‏‏ اللهم لم ترع – قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ لم نزغ – اللهم إنا لا نريد إلا الخير ‏‏,‏‏ ثم هدم من ناحية الركنين , فتربص الناس تلك الليلة , وقالوا ‏‏:‏‏ ننظر , فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت , وإن لم يصبه شيء , فقد رضي الله صنعنا , فهدمنا ‏‏, ‏‏فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله , فهدم وهدم الناس معه , حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس , أساس إبراهيم , أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضا ,ثم إن قريشا جزأت الكعبة , فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة , وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم , وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم , ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي , وكان شق الحجر لبني عبدالدار بن قصي , ولبني أسد بن عبدالعزى بن قصي , ولبني عدي بن كعب بن لؤي , وهو الحطيم ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية , فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود , فإذا هو ‏‏:‏‏ أنا الله ذو بكة , خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض , وصورت الشمس والقمر , وحففتها بسبعة‏ أملاك حنفاء , لا تزول حتى يزول أخشباها , مبارك لأهلها في الماء واللبن , (( قال ابن هشام ‏‏:‏‏ أخشباها ‏‏:‏‏ جبلاها )) , وقال ابن إسحاق ‏‏:‏‏  وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه ‏‏:‏‏ (( مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل , لا يحلها أول من أهلها )) , ‏‏‏‏وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي بأربعين سنة , إن كان ما ذكر حقا , مكتوبا فيه ‏‏:‏‏ (( من يزرع خيرا يحصد غبطة , ومن يزرع شرا يحصد ندامة , ‏‏ تعملون السيئات , وتجزون الحسنات ‏‏, أجل , كما لا يجتنى من الشوك العنب )) ‏‏.‏‏

عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ , قَالَ : لَمَّا هَدَمَ الْحَجَّاجُ الْكَعْبَةَ , فَرَّقَ النَّاسُ تُرَابَهَا , فَلَمَّا صَارُوا إِلَى بِنَائِهَا , فَأَرَادُوا أَنْ يَبْنُوهَا خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ حَيَّةٌ  , فَمَنَعَتِ النَّاسَ الْبِنَاءَ , حَتَّى هَرَبُوا  , فَأَتَوُا الْحَجَّاجَ , فَأَخْبَرُوهُ , فَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَنَعَ بِنَاءَهَا , فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ نَشَدَ النَّاسَ , وَ قَالَ : (( أَنْشُدُ اللَّهَ عَبْداً عِنْدَهُ مِمَّا ابْتُلِينَا بِهِ عِلْمٌ لَمَّا أَخْبَرَنَا بِهِ )) ,  قَالَ : فَقَامَ إِلَيْهِ شَيْخٌ , فَقَالَ : إِنْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدٍ عِلْمٌ فَعِنْدَ رَجُلٍ رَأَيْتُهُ جَاءَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَخَذَ مِقْدَارَهَا ثُمَّ مَضَى  , فَقَالَ الْحَجَّاجُ : مَنْ هُوَ ؟ قَالَ : عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ , فَقَالَ : مَعْدِنُ ذَلِكَ , فَبَعَثَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ , فَأَتَاهُ , فَأَخْبَرَهُ مَا كَانَ مِنْ مَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُ الْبِنَاءَ  , فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ : (( يَا حَجَّاجُ , عَمَدْتَ إِلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ فَأَلْقَيْتَهُ فِي الطَّرِيقِ , وَ انْتَهَبْتَهُ كَأَنَّكَ تَرَى أَنَّهُ تُرَاثٌ لَكَ , اصْعَدِ الْمِنْبَرَ وَ انْشُدِ النَّاسَ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئاً إِلَّا رَدَّهُ  )) , قَالَ : فَفَعَلَ , فَأَنْشَدَ النَّاسَ أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْ‏ءٌ إِلَّا رَدَّهُ  ,  قَالَ : فَرَدُّوهُ  , فَلَمَّا رَأَى جَمْعَ التُّرَابِ , أَتَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ  , فَوَضَعَ الْأَسَاسَ , وَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْفِرُوا  , قَالَ : فَتَغَيَّبَتْ عَنْهُمُ الْحَيَّةُ , وَ حَفَرُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَوْضِعِ الْقَوَاعِدِ  ,قَالَ لَهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: (( تَنَحَّوْا )) , فَتَنَحَّوْا , فَدَنَا مِنْهَا , فَغَطَّاهَا بِثَوْبِهِ , ثُمَّ بَكَى , ثُمَّ غَطَّاهَا بِالتُّرَابِ بِيَدِ نَفْسِهِ , ثُمَّ دَعَا الْفَعَلَةَ , فَقَالَ : (( ضَعُوا بِنَاءَكُمْ )) , فَوَضَعُوا الْبِنَاءَ , فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ حِيطَانُهَا أَمَرَ بِالتُّرَابِ فَقُلِّبَ فَأُلْقِيَ فِي جَوْفِهِ , فَلِذَلِكَ صَارَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعاً يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِالدَّرَجِ

ورد في الأحاديث أن ذو السويقتين أسود أفلج أصيلع – أي انحسر الشعر عن رأسه – أفيدع – مفاصله غير منتظمة – , وقيل إنما سمي ذو السويقتين لصغر ساقيه , وهو من الحبشة , ويأتي على رأس أناس أخرون  يهدمون الكعبة حجرا حجرا , ويسلبها حليها ويجردها من كسوتها , ويستخرج كنزها , ويكون ذلك نهاية الكعبة ولا تعمر بعد ذلك أبدًا .

أحدث المقالات

أحدث المقالات